وترحل عنا في عز ربيع العمر فتصاب المدينة بفقر الدم. تجف ينابيع رأس الماء وتتصحر الأرصفة الفيحاء بوهران الطيبة.. فلطالما كنت تنعشها برذاذ أنفاسك المحمّلة بالأنس والبسمة والسناء.* ترحل عنا وتتدحرج سنابل الأمنيات في مراياك المتشنجة في الصدر. تورق في الداخل سكاكين الغربة في هذا الزمن المكتئب. ترحلئعنا بعدما نحت في مساماتنا كلماتك المتوهجة بالآمال والأنوار، ستظل أصواتك وفوانيسك تخترق شرخ الذاكرة وتسكن الضلوع والأغوار. نم قرير العين يا عمار. برز اسم الأديب الراحل عمار بلحسنئالذي ولد في 13 فيفري عام1953ئ وانتقل إلى جوار ربه في صائفة 1993 في خضم حركة ثقافية وفكرية وإبداعية عرفتها الجزائر في السبعينيات والثمانينيات. وساهمئمع مجموعة من الأسماء في وضع معالم وأسس تلك الحركة، وقد احتضن فضاء النادي الأدبي لجريدة الجمهورية حيزا معتبرا من تلك الوثبة التي شارك فيها الأديب الراحل بكل فعالية وإقبال وتوهج. ولعل ما ميز هذا الملحق الأدبي الذي أسسه منذ 9 مارس 1978 الأستاذ بلقاسم بن عبد الله مع مجموعة من الأدباء واستمر إلى غاية 22 مارس 1987 دوره الريادي والفعال في بعث حركةئأدبية مستمرة ومتميزةئشاركت فيها كل الأقلام في شتى دروب المعرفة والإبداع من كل أرجاء الوطن ومن خارجه. وقد كان للنادي الأدبي فضل احترام كل الأراء ضمن مناقشات بناءة ولم يضع نفسه في سجن مذهب أو تيار فكري معين ولم يتعصب لجيل دون آخر، وإنما فسح أبوابه لكل الأجيال مما جعله يتبوا مكانة متميزة بين المنابر الأدبية الأخرى. والحديث عن النادي الأدبي يقودنا حتما للحديث عن الأديب الراحل عمار بلحسن الذي كان له دور أساسي في تألق الملحق وتجدده واستمراريته. وقد تعددت مواضيع عمار وتنوعت إسهاماته، مما يجعلها تستحق فعلا أن تجرد وتوثق من طرف المهتمين والجامعيين والباحثين. وقد ظل عمار يكتب في مجالات متعددة ومتنوعة في الأدب والنقد وعلم الاجتماع وعرفت كتاباته بالجرأة في إبداءئالرأي. وكان يهتم كثيرا بالإعلام ورموز الأدب العالمي. وقد اخترت الوقوف عندها في إطلالة سريعة محتشمة. وسأكتفي بما كتبه الراحل في فترة قصيرة تمتد من 11 مارس 1985 إلى 21 أفريل 1986 وهي الفترة التي أصبح فيها الملحق يضم ثماني صفحات. وقد تناول عمار بلحسن في بحوثه التي أنجزها خلال هذه الفترة القصيرة ''غارسيا ماركيز ويوكيو ميشما وخورخي امادو وكلود سيمون وجان جونيه''. رواية الكولونيل أو القابو العجيب يتناول الراحل بلحسن رواية الكولونيل ل ''غارسيا ماركيز'' أو ''القابو العجيب''، كما يسميه أصحابه، فيقف لحظات مع الإحساس بالعزلة التي تفيض في كل شرايين ومسامات اللحظات التي يحياها العقيد في لغة يراها الباحث لغة مكثفة وصارمة يسيطر عليها الاهتمام بالفعالية والدقة، وقد أبدع ماركيز هذه الرواية في سنة 1957 ببارس، وقد مهدت -كما يرى عمار بلحسن- لقمم وعيون أدبية أخرى مثل مئة عام من العزلة أو خريف البطريرك، ويظهر النبوغ السردي والكثافة الشعرية لدرجة أن تصبح الكتابة قصيدة نثرية تعبّر عن العزلة المطلقة لقرية ''ماكوندو'' وكائناتها ومخلوقاتها الأسطورية. إستراحة في جو اليابان من أجواء أمريكا اللاتينية ينقلنا الكاتب إلى جو آخر، وهو جو اليابان، ويرى أن خلق المعجزة اليابانية الاقتصادية التي بهرت العالم بمنتوجاتها ومخلوقاتها الدقيقة والعجيبة، فقد يشكل الأدب الياباني كلمته التراجيدية. ويقف في خضم هذه النهضة الأدبية العريقة عند الكاتب الكبير يوكيو ميشيما المتجذر في حقل المحرم أو ''التابو''، فيتناول عمار كتابات هذا العملاق من ناحية المضمون والشكل،. ويختلف مع الذين يضعونه في قمة الأدب الياباني. عودة إلى أمريكا اللاتينية يعود عمار إلى أمريكا اللاتينية التي أدهشته آدابها وأثارت إعجابه وفضوله. ويتناول في وقفة أخرى موقفه من قصة ''لجاكي'' من أعماق القلب للكاتب ''سيرجيو راميراز'' فيرى أن لأمريكا اللاتينية وكتابها طاقة إشعاع من السخرية من كل ما هو سلطوي وكفاءة إبداعية راقية على تحقيق كل ما هو مجيد ومهيب، لأنها -كما يقول- معجونة بحضارات الهنود والأزاتيك والمايا والروح الإسبانية. ويرى عمار أن لقلم أدباء أمريكا اللاتينية نكهة سحرية جمالية مضادة لكل ما يؤسس للسلطة ويعطي مشروعية لها ولعلاقاتها من قوة وتسلط وانسحاق وخنوع ونفاق وموالاة واستبداد وسيطرة وطغيان وهيمنة. إبحار في عالم خورخي أمادو ثم يدخلنا الراحل عمار بلحسن إلى عالم الروائي البرازيلي ''خورخي أمادو'' في مقالة تحت عنوان مدينة من الكلمات ''طوكايا الكبيرة''، فيشبه الباحث ''خورخي أمادو'' بمخيلة أمازونية، وهو يعرف جيدا رحيق ''الكاكاو'' والكلمات من جنوب ولاية باهيا، حيث ولد سنة 1912م، وقد كان ''أمادو'' يبني قصصا ويحكي بقوة أسرار زراعة الكاكاو وعرق عماله قبل أن تأخذه الصحافة ويستهويه الأدب الذي تفرغ له بكل ما يملك من موهبة ونبوغ. أغوار روايات كلود سيمون يتناول الراحل عمار في ركن ''آفاق'' في مقالة مفصلة عن الأديب والمفكر الفرنسي ''كلود سيمون'' الحائز على نوبل للآداب لسنة .1985 وقد أبحر عمار في أغوار رواياته التي تقارب 16 رواية كتبت بين 1946 و1983م، ورأى أن الكتابة عند هذا الأديب تعد مغامرة سردية وكتاباته حافلة بأصوات ونكهات وأجواء خيوط رهيفة بعيدة عن السرد الكلاسيكي. شخصية ''جان جوني'' شاءت الصدف أن تفقد الساحة الأدبية الفرنسية قطبين في الوقت نفسه، هما الأديب جان جونيه والكاتبة الوجودية الشهيرة رفيقة جان بول سارتر سيمون دو بوفوار، وقد كتبت عنها في 21 أفريل 1986 مقالة بعنوان ''رحيل دوبوفوار من سيواصل المشوار''. وتناول عمار بلحسن شخصيةئ''جان جونيه'' بكل ما تحمله من نفايات، والذي تحلى بكل الصفات الرديئة. لكنه كان يكره العنف، وقد انتهى على فراش المرض كاتبا عن علاقته بالثورة الفلسطينية بعد زيارته لمخيمي صبرا وشتيلا، حيث يتوغل الكاتب في قصة هذا الأديب الذي قضى جزءا من حياته في السجن بعد هروبه من الجندية وقيامه بعدة جنح، مما جعل كبار الأدباء وعلى رأسهم ''سارتر'' يتدخلون لإطلاق سراحه بحجة أنه كاتب القرن. هكذا كان يطل الراحل عمار بلحسن على قراء النادي الأدبي لجريدة الجمهورية بمواضيع مثيرة ومنتقاة. ويفتح كل مرة نافذة على الأدب العالمي برؤية حداثية متأصلة وجذابة وستظل أوراقه المنسية منجما خصبا للباحثين.