حشد معتبر من الإعلاميين وسط قاعة الندوات في أعرق فندق بمدينة بليموث البريطانية، الجميع ينتظر الندوة التي يقدمها حميد عياشي الليبي الأصلي البريطاني الجنسية، أقدم معتقل في غوانتانامو، والمفترض أن الندوة أقيمت قبل أسبوعين كما هو مسطر لها مع محاميه، لكن لأسباب أرجأ الكشف عنها لاحقا أجلت الندوة، قيل إنه سافر للجزائر للتأكد من بعض الأمور ولإيصال رسالة، يكشف عن محتواها اليوم... بسم الله الرحمان الرحيم، السادة الحضور، زملائي الإعلاميين، أعلم أن الجميع متشوق لسماع قصتي، لكن لست هنا اليوم لأزيل اللُّبس عن العلاقة التي ربطتني بتنظيم القاعدة وادعاء مكتب التحقيقات الأمريكية بكوني المسؤول الإعلامي في التنظيم وأن عملي كمحرر في جريدة الحياة اللندنية ما هو إلا غطاء، فهذه القصة على تشابك أحداثها ليست بغرابة الحقيقة التي سوف أكشفها على مسامعكم كما سمعتها من عند صاحبها كمال الجزائري، وأعذروني فلن أفصح عن لقبه في الوقت الحاضر احتراما لرغبة عائلته. كمال من مواليد 1976 والقاطن بغار الطين بمرسط إحدى دوائر ولاية تبسة، كمال من أسرة بسيطة بساطة أهل الشرق الجزائري ومتواضعة تواضعهم، زاول دراسته بجد وفي عطلة الصيف كان يعتمد على نفسه لتحصيل مصروفه اليومي، فتجده يجوب الشوارع مناديا: ''النبق، النبق ...'' وهو ثمر شجرة السدر، ثم بعدما كبر بدل نشاطه الموسمي لبيع ثمرة التين الشوكي، وهو ما يعرف هناك بالعامية بالهندي، أما في أيام رمضان فيبيع الملصوقة أو أوراق البوراك... نجح كمال وأكمل دراسته الجامعية وتخرج مهندس في الهندسة المدنية وكغيره من خريجي الجامعات لم يتمكن من الظفر بوظيفة رغم كثرة الطلبات التي قدمها، استغل البطالة الإجبارية في حفظ القرآن الكريم في زاوية سيدي عبد الله، وقرر مباشرة مشروع تجاري تمثل في طاولة سجائر صغيرة، لكنها غير مربحة، لأن الشوارع كلها مليئة بطاولات السجائر حتى علق أحدهم ''أن عدد باعة السجائر أكثر من عدد مستهليكها'' كمال إنسان طموح وهو يريد رأسمال حتى ينطلق في تجارته، لكن من عساه يقرض إنسان بطّال... مدينة مرسط زاخرة بالآثار الرومانية المطمورة، وقد ازدهرت فيها تجارة البحث والتنقيب عن هذه الآثار وبيعها في السوق السوداء لمهربي الآثار، كمال أصبح لا يرى إلا نادرا في المدينة، فمعظم الوقت يمضيه في الهناشير والجبال المحيطة بمرسط باحثا ومنقبا عن نقود قديمة أو تمثال صغير كامل أو مبتور، إنها موجودة في الخلاء ليس ملك لأحد أصحابها ماتوا منذ آلاف السنين، فهي ملك لمن يبحث عنها في جد وتعب إذن، ملك لي أنا، هكذا برر كمال فعلته، وقد تكلل بحثه باكتشاف بعض الآثار، وقد ساعده في ذلك سيل جارف نتيجة لأمطار غزيرة سقطت على المدينة، فانهار ردم جبلي كاشفا عن مغارة حجرية، باع كمال محتوياتها بمبلغ كبير جدا... إنتشر الحديث في مقاهي المدينة عن عثور سي كمال عن كنز كبير، بعد سماع الخبر أضيفت لفظة ''سي'' إلى اسمه وهي تصغير لكلمة سيدي... أصبح الدرك الوطني يتابع حركاته عن كثب، عيون تترصده في كل مكان خاصة حين يستقل الحافلة المتجهة إلى تبسة التي تفتش تفتيشا دقيقا في الحواجز الأمنية... كثر الحديث عن كنز قيم وجده في مقبرة عائلية قيل إنها تعود لحاكم المقاطعة وزوجته وابنتيه وكلب لهم ومخطوطات، قيل إنه أخذ أواني ذهبية وفضية وحلي الزوجة والبنتين وتاج مرصع وعصا ذهبية تعود للحاكم وأعاد دفن الهياكل العظمية في توابيتها الحجرية، كما وجدها بل ووارى عنها حتى لا يعرف مكانها... لقد ألقي القبض على المدعو الباباي وهو الوسيط الذي يشتري منه الآثار وقيل إنه وكيل رجل يهودي مكلف بسوق كل من ولاية تبسة وولاية سوق أهراس الأثريتين، المسألة مسألة ساعات ويداهم منزلي ويقبض عليّ، لا حل لي سوى الهجرة السرية، فهو غير مستعد لخسارة ثروته وسنين شبابه التي سيلتهمها السجن على جنايته، اتجه فورا إلى مدينة عنابة، هناك دلوه على السيد نورس ملك البحر، يملك قارب صيد تحصل عليه في إطار دعم الشباب لأجل حرفة الصيد، فحوله إلى نقل الحراة، النورس صاحب قرعة لا يفارق الخمر ولا الخمر تفارقه، علاقته بها كعلاقة رضيع بثدي أمه مهما امتص الحليب فلن يرتوي وإن ارتوى برهة عاد في بكاء طالبا المزيد... إكتمل العدد وانطلق القارب ذو المحرك من شاطئ ''لابي واست'' الجبلي متجهين إلى جزيرة سردينيا الإيطالية على الساعة الثانية صباحا، محملا بكمال وفاروق السطايفي ورشيد السكيكدي وعمار وجمال من الطارف بقيادة النورس المخمور... النورس منتشي قبض مبلغ كبير على كل رأس.. النورس خبير بحر يعرف المسالك البحرية ويحفظ الاتجاهات دون بوصلة وقد قام بعمليتين ناجحتين... أصوات ركاب القارب تتخافت بالدعاء: ''يارب سهل''.. ''يارب فرج''.. ''يارب استرنا''.. ''يارب نوب علينا''.. يتخللها صوت النورس متمتما مقطع من أغنية قيل إنها للشاب خلاص: ''نشرب الروج ولا العباد العوج...''، ثم ينفجر ضاحكا مخاطبا الجميع: ''تعرفوا ربي غير وقت الرعد...'' سطع ضوء باهر فجأة، أغمض الجميع عيونهم من شدته، النورس إنه البرق لما تحدث عن الرعد.. إنه صوت محرك مركب كبير.. الضوء مسلط عليهم وصوت يأمرهم بالتوقف وإطفاء المحرك عن طريق مكبر الصوت... إنه مركب مسلح، قال كمال، أجاب فاروق حراس السواحل، اعتقد، قطعه النورس لقد خرجنا من المياه الإقليمية للبلاد نحن في المياه الدولية... علا صوت المكبر من جديد: ارفعوا أيديكم ولا تقوموا بأي حركة أنتم لا تتمتعون بأي حماية قانونية، نفذوا التعليمات بدقة حفاظا على حياتكم.. تسمر الجميع في مكانهم ورمي بسلم مفتول من الحبال، برز ثلاثة جنود يرتدون زي مشاة البحرية الأمريكية، يتكلم أحدهم العربية بطلاقة، بعد التفتيش الدقيق وعند عدم عثورهم على أي وثيقة هوية بحوزتنا استجوبونا، أخبرناهم أننا قدمنا من الجزائر قيدونا بالأغلال في أيدينا وأرجلنا ليعتقلوننا باعتبارنا مهاجرين سريين، انتفض النورس في وجوههم، باعتبار أن إجراءات الاعتقال باطلة لأنها ليس من صلاحياتهم ولا ضمن اختصاصهم الإقليمي... حتى خيل لي أن النورس اشتغل من قبل محاميا، نظر الجنود الثلاثة إلى بعضهم البعض ثم نظروا إلى النورس، اعتذر منه الذي يتحدث العربية ووضح له أن هذا الإجراء قانوني بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأسود وأنه فور التأكد من هويتهم وعدم متابعتهم من طرف الولاياتالمتحدة يطلق سراحهم، لأنه احتمال يكونوا من تنظيم القاعدة، وطلب منه الرجوع إلى الجزائر باعتباره يملك بطاقة تعريفه الوطنية، صعدنا إلى المركب الحربي، وبقي النورس في قاربه يردد: الله غالب يا جماعة ما عندي ما ندير على الأقل يرجع واحد معاه الخبر... ورجع النورس بزورقه، وبقي المركب الحربي لابث بمكانه، ترى هل باعنا النورس لهم وهل العمليتين التي قال لنا في افتخار إنه نجح في توصيلهم إلى سردينيا، كان مصيرهما هو مصيرنا وقام أمامهم بنفس التمثيلية التي قام بها أمامنا؟ قطع عني حبل أفكاري صوت طلقة مدفعية من المركب الحربي، اتجهت مباشرة لزورق النورس الذي تحوّل في أقل من ثواني لكتلة ملتهبة طفت لبرهة فوق البحر وقهقه جندي يقول لصديقه: كسبت الرهان لقد أصبته من أول طلقة... قبل أسبوعين أعلن الجيش اللبناني التعرف على جثتين من تنظيم فتح الإسلام وكانت لفاروق وعمار، قيل إنهما تسللا إلى لبنان عبر سوريا، أما رشيد فهو معتقل في سجن أبو غريب باعتباره الذراع الأيمن لأمير تنظيم قاعدة بلاد الرافدين، كما أكد وفد الصليب الأحمر الدولي اعتمادا على وثائق حكومية. أما جمال، فقد شوهد في مركز لومباروزا وقد بيع بعدها كعمالة رخيصة لأحد المصانع المختصة في فرز وإعادة تصنيع حديد الخردة مع حرمانه من حقوقه المدنية ومزايا قانون العمل الإيطالي، عثر بعدها على جثته منزوعة الأعضاء الداخلية، وقد قيل إنها بيعت من طرف مافيا تجارة الأعضاء البشرية.. أما كمال فهو الذي أخبرني بكل تفاصيل هذه القصة حين كان نزيلا معي في سجن غوانتانامو قبل أن يرحل لصحراء النقب، حيث يوجد مختبر ضخم للأسلحة البيولوجية والتعديلات الوراثية والاستنساخ والتلاعب بالجينات، حيث تجري عليهم تجارب، وبعد الانتهاء منها يعلنوا عن انتحاره.. ودون فخر كمال الجزائري هو الوحيد الذي تمكن من الفرار بنجاح من هذا الجحيم، وهو الآن حي يرزق في مكان آمن. أعلم أن الجميع ينتظر تفاصيل اعتقاله في سجن غوانتانامو وقصة التجارب الإنسانية في الدولة العبرية وكيفية وصول أصحابه المحتجزين معه في القارب الأمريكي نفسه إلى لبنان والعراق وإيطاليا، لكن كل ما بوسعي أن أقوله اليوم هو ترقبوا إجابة كل هذه الأسئلة في كتابي الذي شاركني في تأليفه كمال الجزائري وسينزل الأسواق الأسبوع القادم إن شاء الله... في اليوم الذي يليه أعلن في وسائل الإعلام البريطانية نبأ انتحار حميد عياشي في ظروف غامضة، مع تأكيد طبيبه الخاص أنه كان يعاني من اضطرابات نفسية زادت حدة الأيام القليلة الفائتة مما جعله يتخيل أشياء غير حقيقية من مطاردات والقصة التي رواها عن كمال هي الأخرى من نسج خياله المريض... الغريب في الأمر اختفاء النسخة الوحيدة المكتوبة بخط يده وعنوانها: ''الرحلة الأخيرة: حقائق أغرب من الخيال''، المقرر أن يعلن عنه وشراء جميع النسخ المقرر أن تظهر في السوق من دار النشر مع إبقاء اسم المشتري مجهول لدواعي أمنية. أصابع الاتهام وجهت للمخابرات الأمريكية والموساد، المخابرات البريطانية اعترضت رسالة مشفرة تؤكد اغتيال حميد عياشي من طرف مخابرات أجنبية مع تأكيدها أن الكتاب لم يكن بحوزته عند اقتحام إقامته، شريط مراقبة الفندق الذي عطل قبل العملية يؤكد أن شخصا خرج من الفندق قبل تنفيذ العملية بمدة وجيزة يحمل حافظة رجحت أنها النسخة الوحيدة للكتابة، وأغلب الظن أن ذلك الشخص هو كمال الجزائري.. المطلوب تصفيته بأية طريقة.