ظل الروائي الإيطالي كلاوديو ماجريس 1939 مرشحا لنيل جائزة نوبل للعام المنصرم لآخر لحظة، ليس لأجل إنتاجه المتنوع فحسب، بل لما تتضمنه أعماله من طرح فلسفي عميق، من أشهر مؤلفاته ''دانوب'' ''أسطورة ابسيرجو''، ''ستفهموم إذن'' ''بعيد أين''·· وغيرهها من الأعمال القيمة· يمكن أن يصبح التعدد شيئا محبوبا إذا كان كل شيء غير قابل للتغيير، هذا ما أكدته، هل يمكن التعبير عن هذا المعنى أدبيا في عالم التغييرات هذا؟ الدانوب، كله، يغزوه شعور بأن العالم خاصة الحاضر منه تسيطر عليه ظاهرة التظاهر، تغيير كل شيء بكل شيء، إنه عالم تسيطر عليه قيمة التغير التي تقلص كل شيء حتى المشاعر، الأحاسيس، وأيضا، الوجود الانساني إلى مجرد استياء قابل للتبديل، يتعلق الأمر، هاهنا، بظاهرة العصر، يجب النظر إلى المرآة دون أوهام أو شعور ما بالحنين، فالدانوب متحرر من كل حنين رجعي، من كل حنين ماضوي، من كل مثالية ماضوية· كذلك هو متحرر من كل سخط؟ طبعا، إنه يقبل الواقع المعاصر حيث يغامر بالعيش وسط الشرور والشكوك، إنه متحرر من كل التطورات التاريخية· فكل من ينزل إلى الدانوب يدرك أن الطبيعة والأشياء الأخرى قد تصبح عسيرة المنال، مبهمة غير قابلة للتبديل، كل من ينزل إلى الدانوب يدرك، أيضا، أنه في حرب مع السخط والتذمر وعدم الرضا· في كتابك ''حاتم كلاريس'' تناولت الظواهر الأكثر تعقيدا في الأدب المعاصر، المعنى وأقول ما يسمى بالأسلوب الكبير، هل فقدنا القدرة على الإكتفاء بما هو أساسي في هذا العالم؟ حاولت أن أحلل مسألة أفول القوة الشعرية، الأخلاقية والفلسفية القيمة بجعل القيمة شيئا متفردا، حاولت، أيضا، أن أحلل المعنى الأساسي الذي ترتكز عليه الأشياء· تناولت، في فصول الكتاب، المشاكل العامة، كما تطرقت إلى مختلف الكتاب هو فمنستال، إبسن، موسيل هامسوم، سفيفو كانتي، سينجر، حاولت من خلالهم أن أبين كيف حدث أفول ما يسمى بالأسلوب الكبير، رغم ما حدث للأسلوب إلا أنني أستطيع أن أقول أنه لم يحن بعد أفوله نهائيا، فالأسلوب الكبير لم ينته بعد، إنما الشيء الذي تلاشى هو بعض الأشكال التقليدية، أقول أن أشكال سرد الرواية التقليدية، بعض الأشكال الفنية القديمة هي التي بدأت تأفل· هل تعرف أمبرتو سابا؟ ماذا تقول عنه عن مكتبته، عالمه شفافية شعره؟ للأسف، لم أتعرف على سابا، توفي سنة 1957 عندما كنت أبلغ 18 عاما، كنت قد بدأت القراءة في سن مبكرة، إلا أنني لم أقرأ، آنذاك، أحد أبناء تريستي، بدأت أقرأ سابا وسفيفر SABA وSVEVO في الجامعة بتورينو، أي عندما ابتعدت عن تريستي عندما كنت أعيش في تريستي TRIESTE، عشت مثل سفيفو الذي كان يقول تمتع بالمدينة ثم حاول أن تنساها· تعرفت على عدة أشخاص كانوا يعرفون سابا مثل الكاتب جورجو فوجيرة أو نورا بالدي لقد قصوا علي نكتا وقصصا لا حصر لها حول هذا الكاتب، من بين الأشياء التي سمعتها عنه، قدرته على الحب والمعاناة عن نرجسيته التي عبر عنها دون مشاكل، لقد حولته التعاسة التي عانى منها كثيرا، إلى عملة نادرة، لقد علمته تعاسته كيف يسري على نفسه بأشياء أخرى دون تقديم تنازلات دون تنكر لذاته، إن أهم ما يميز شعر سابا هو قدرته على مواجهة الواقع وجها لوجه، كان سابا يردد كثيرا مقولة نتيشه الذي كان يحث الانسان كي يبدو أكثر وضوحا وأن يكون أكثر عمقا· كيف تفسر العلاقة التي أقامها سفيفو SVEVO بين أزمة الانسان المعاصر ومدينة تريستي البورجوازية؟ كانت تريستي مدينة بورجوازية بحتة، لم تعرف عهد الأرستقراطية الذي ميزته التقاليد الإقطاعية وظهور الصناعة، فتريستي إنتقلت من الماركنتية إلى البورجوازية مباشرة، لم ينظر إلى هذا الانتقال على أنه تحول اجتماعي واقتصادي، بل تم النظر إليه على أنه نهاية حتمية· لم يفصل سفيفو بين الحياة البورجوازية والحياة العامة لذا نجد أن نقده للبورجوازية لا ينفصل عن نقده للحياة بصفة عامة، لقد عاش سفيفو التجربة البورجوازية بكل سخرية ومرارة، وهذا ما جعل منه أحد أكبر الشعراء يأسا وشعورا بخيبة الأمل، لقد استطاع أن يربط نظرته العميقة بين حياته البورجوازية والحياة، بصفة عامة، دون أن يدعي أنه استطاع أن يعالج ذلك الشرخ بينهما· ما هي القيمة التي تحملها الحياة ضمن خيبة الأمل التي تفرزها البورجوازية؟ يرى سفيفو أن البورجوازية جعلت الانسان غير قادر على عيش حياة عادية حقيقية، جعلته يشعر أن الحياة الحقيقية غير موجودة ليحل محلها التفكير حول هذه الحياة· هل تعتبر حكم سفيفو حول الثقافة البورجوازية باعتبارها غير قادرة على تجديد حياة الفرد، وباعتبارها، أيضا، آيلة إلى التلاشي؟ أعتقد أن مصطلح ''الثقافة البورجوازية'' مصطلحا عاما جدا، لذا نحن، دائما، في حاجة إلى تعريفه من خلال مصطلحات تاريخية ومؤقتة، فالبورجوازية الفرنسية التي أدت إلى الثورة الفرنسية تختلف اختلافا جذريا عن البورجوازية الفيكتوريانية VICTORIENNE، عن بورجوازية بداية القرن العشرين وعن بورجوازية الثلاثينيات وحتى عن بورجوازية الوقت الحالي، إن سفيفو هو أحسن من عبر عن بورجوازية الثمانينيات حيث بقي مجتمعها جامدا لا يتغير خائفا من أقواله تحت ذريعة أفول الحضارة نفسها· إستطاع سفيفو من خلال إحدى شخصياته المتعلقة على نفسها التي استطاعت أن تدافع عن نفسها دون أن تتطور إلى الأمام، وأن يلم بالعناصر الأساسية لما يطلق عليه بالكائن الكوني، لو كان سفيفو عالما إيديولوجيا لرأى الأمر بشكل أكثر عمقا ولما أعطى وجهة نظره عن البورجوازية على النحو الذي قدمها به· تحمل اليوم كلمة بورجوازية عدة دلالات لذا أقول أن تشريح سفيفو لها يمكن تطبيقه سواء بسواء، ومع هذا، فإن هذه البورجوازية التي تميز العالم كله استطاعت أن تزيل الخوف من أنفسنا إلا أنها أزالت، أيضا، الأمل، أعطتنا الانطباع بأن لا شيء سيحدث، أكدت فكرة سفيفو الساخرة والقائلة بأن هذا العالم قد تجمد· هل يمكن اعتبار منطقة تريستي TRIESTE نموذجا للإمبراطورية الهنجارية النمساوية؟ طبعا على الأقل إلى غاية 1914 فتريستي هي نموذج للإمبراطورية الهنجارية النمساوية· austrohongarieme لعدة أسباب مثلها مثل أي إمبراطورية كانت تريستي مليئة بالتناقضات التي شكلت، من جهة أخرى، عظمتها، غير أنها، كانت تعني انحطاطها، أيضا، كانت هذه المدينة الإيطالية مزدهرة اقتصاديا وثقافيا بفضل ارتباطها بالإمبراطورية الهنجارية النمساوية التي امتد إشعاعها الثقافي إلى غاية إيطاليا، في حين أن الأطياف الثقافية الإيطالية وصلت متأخرة إلى تخومها، لذا تحملت تريستي، تباعا، الأزمة الثقافية إيطاليا لا أوروبيا· في بداية القرن العشرين، عندما أصبح مفكرو تريستي مثل سالاتابر، ستوباريخ وآخرين على علم بالفراغ الثقافي، أسسوا ثقافة أخرى· فهذا الاحتضار الذي عانت منه تريستي هو الذي جعل منها إحدى زعيمات الثقافة المعاصرة· في ''بعيد من أين'' تحدثت عن حلم طوباوي، كيف تفسر التأثير الكبير للثقافة اليهودية على شرق أوروبا لمواجهة شرور الثقافة الغربية؟ منحت الثقافة اليهودية حساسية رائعة للعديد من الكتاب لأسباب عديدة من بينها أن اليهودية عاشت قرنين من الزمن في حالة منفى، لقد عاش اليهودي في أصقاع بعيدة عن الأرض الموعودة ما ولد لديه شعورا بأنه لا يعيش لا في بيت ولا في وطن، لقد عاش اليهودي مطاردا من بلد لآخر، حياته أشبه ما تكون بحياة أي إنسان فقد وطنه، ثم أن هذا اليهودي، دائما، كان يشعر بأنه إنسان مختلف عن باقي الناس المحيطين به، عدم الاندماج هذا حتم عليه أن يبقى يهوديا، غير أنه في نفس الوقت كان يتحتم عليه ألا يتصرف كيهودي فهذا التمزق هو إحدى أهم مميزات الثقافة الغربية التي وجدت في الثقافة اليهودية أحسن ممثل لها، فاليهودية، خاصة الشرقية منها، كانت بمثابة الدواء لهذا الشر المعاصر· لقد وجد اليهودي الشرقي في الدين ملاذا له يحميه من تصاريف التاريخ وتقلباته· لقد أعجب كافكا بممثلي مسرح اليديش وحسدهم، في نفس الوقت، على تماسكهم، حسدهم على توحد مشاعرهم، أحلامهم، على سكونهم، ليس من قبيل الصدفة أن نجد في الأدب اليهودي الشرقي، أشخاصا نزهاء كثر يواجهون التاريخ بشجاعة·