سيكون على من يحكم فرنسا في الشهر القادم بأن يُعيد موضعة الأولويات بعيداً عن الرغبة في اجتذاب الأصوات ويقلب المعادلة بحيث تصبح البرامج وتطبيقها هي الفاعلة في إعادة تكوين الوعي المجتمعي واجتذابه إلى التمسك بقيم تمزج بين الحلم والواقع. تعيش فرنسا مخاض انتخابات فريدة من نوعها للوصول إلى قصر الإليزيه خاضها في دورتها الأولى مجموعة كبيرة من المرشحين أبرزهم ممثلو اليمين التقليدي واليسار التقليدي والوسط وائتلاف اليسار واليمين المتطرف. وقد شهدت الحملة الانتخابية صعوداً كبيراً للشعبوية السياسية من قبل ممثلي اليمين التقليدي وائتلاف اليسار، بنسبٍ متفاوتة وباتجاهات متعاكسة، نجم عنها ظنٌّ متعاظم بأن يكون الأخير هو العامل المقرر في الدورة الثانية بحيث يصل إلى المرتبة الثالثة في المرحلة الأولى ويكون قادراً على حسم النتيجة النهائية. فمن جهته، حاول اليمين التقليدي مجاراة التوجه العنصري المتجذّر لدى بعض أفراد الطبقة العليا، والمتنامي لدى الطبقتين الوسطى والدنيا نتيجة سوء الإدارة السياسية والأمنية والتربوية لملف الهجرة واندماج الأجانب منذ سنوات. إضافة إلى أن هذا اليمين، الحاكم منذ سنوات، استغل مسألة الأمان والأمن في المجتمع بصورة متميّزة ووضعها في إطار أولوياته مما داعب مشاعر كثير ممن لديهم ضعفٌ في التحليل وتسطيح في المعالجة. وساهمت بعض العمليات الإرهابية وتسليط الإعلام على معالجتها في رفع أسهم هذا الخطاب الذي طالما تعزّز في محيط الفترات الانتخابية في أوروبا عموماً وفي فرنسا خصوصاً. أما ائتلاف اليسار، فقد طرح خطاباً ملفتاً في عمقه التحليلي للأزمات التي يمر بها المجتمع الفرنسي في أبعادها المختلفة ولكنه أضاف إلى هذه المعالجة، شعبوية توجهت بلغة مبسّطة ومباشرة إلى الطبقات الوسطى والدنيا التي عانت ما عانته من الحكم اليميني. وشعبويته لم تعتمد على التخويف والترهيب من خطر خارجي كما فعل اليمين التقليدي، ولا هي ارتبطت بخطاب سياسي حالم لطالما لجأ إليه التقليديون من اليمين واليسار لكسب تعاطف المترددين، بل تميّزت هذه الشعبوية بشخص ممثّله ومرشحه الرئاسي ''ملانشون'' الذي صاحبته كاريزما فعّالة وجعلت منه نجم وسائل الإعلام التي تعامل معها بطريقة ربما ''تستحقها'' وصلت إلى حد ''الوقاحة'' التي قربته من مشاعر الكثيرين الذين ما فتئوا يعتقدون بتقهقر المهنية الصحفية وبتوجه ممارسي هذه المهنة إلى الكثير من المحاباة أو المعاداة مبتعدين عن الموضوعية المشتهاة. شعبويته إذا جاءت محببة ولم تستند إلى الرقص على أنغام الخوف والتخويف، ولا هي اعتمدت على كسب ناخبين من الاتجاه المختلف وابتعدت عن الحسابات الرقمية، وركّزت بالتالي على من هم يساريون فعلاً ويبحثون عن تعبير فعّال لبرنامج اليسار الذي طالما تغنّى به البعض ونفّذوا برنامجاً يمينيا بامتياز. وفي إطار مختلف ومناقض تماماً، برز إعلامياً حزب الجبهة الوطنية ممثلاً بمرشحته مارين لوبين، التي أعادت انتاج خطاب الكراهية والتمييز والاسلاموفوبيا الذي ورثته عن والدها ولكنها استعملت في ذلك قفازات مخملية جعلتها أكثر قبولاً ممن يمكن تصنيفهم بحزب ''أنا لست عنصري، ولكن..'' وأعضاؤه كثر. وبشعبوية قريبة من الفاشية السياسية، ترجمت لوبين، قناعاتها وقناعات والدها في برامج انتخابية حملت الكثير من الوهم الاقتصادي والانعزالية الإقليمية ومعاداة الأجانب بصيغٍ مختلفة. وقد شاركها في التقدم في استطلاعات الرأي، وضوح محاولة اليمين التقليدي العزف على أوتار قيثارتها ولجوء اليسار التقليدي إلى الهروب من الإجابة عن الأسئلة المزعجة، وأخيراً، ممارسات موتورة وغير سياسية من قبل من يعادي معاداتها للأجانب. أما اليسار التقليدي، فلم يقدم حلولاً بل وعوداً، ولم يفتح الملفات المعقدة، بل تجاوزها بتؤدة واضعاً احتمالات عديدة لمعالجتها، ولم يعتمد على كاريزما مرشحه بل على آلة انتخابية تمرّست في الهزائم حتى أصبحت محترفة ومتمكنة، واستند أكثر ما استند على الإحباط السائد من سياسات ساركوزية اقتصادية واجتماعية إضافة إلى شخصية الرئيس الآيل للمغادرة التي ضايقت الكثيرين في الأقوال وفي الممارسات. وقد حاول فرنسوا هولاند، رئيس الجمهورية الفرنسية المحتمل، بأن يعرض برامج اقتصادية مطمئنة بعيداً عن الأوهام مشدداً على صعوبة إدارة الإرث اقتصاديا واجتماعياً، دون اللجوء إلى الترهيب. وقد حصلت المفاجأة المتوقعة، حيث تجاوز اليمين المتطرف بنتائجه في الدورة الأولى احتمال تموضع ائتلاف اليسار في المرتبة الثالثة والذي أشارت إليه استطلاعات الرأي وأضحى القادر على ترجيح الكفة في نتائج الدورة الثانية أو هكذا يظن أصحابه. وتجاوز هولاند، الرئيس الخارج ساركوزي بنقاط قليلة. وبنتيجة ذلك، سيتواجهان في الدورة الثانية معتمدين على اجتذاب أصوات الخارجين من حلبة السباق خصوصا الوسط المتراجع وائتلاف اليسار ويمين التطرف. وكان لافتاً موقف ملانشون ''المواطني'' حيث دعا ناخبيه بلا مواربة، وفور إعلان النتائج، إلى التصويت لليسار التقليدي لقطع الطريق أمام الرئيس الحالي بعيداً عن أي تفاوض أو مقايضة. في حين، لجأت مارين لوبين، صاحبة أعلى نتيجة لليمين المتطرف في الانتخابات الفرنسية منذ زمن، إلى المقايضة والترغيب والتهديد. وقد استجاب الرئيس ساركوزي، لهذه المماحكة السياسوية وطوّر بعجالة خطاباً يداعب مشاعر ناخبيها الذين يشعرون بنشوة انتصارهم كقوة ثالثة مؤثرة في المشهد السياسي الفرنسي. ربما انتصر اليسار التقليدي بإيصال مرشحه إلى الحكم، وربما خرج ساركوزي من الباب الخلفي لقصر الإليزيه، وربما أصبحت لوبين قادرة على إدخال ممثليها إلى برلمان جمهورية العدالة والإخاء والمساواة، ولكن أهم النتائج التي استطاعت هذه الانتخابات أن تطرحها هي عودة الحياة إلى اليسار الفعلي بحيث تنبّه اليسار التقليدي بأن ابتعاده المستمر عن مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة يُفقده مكانته وتمايزه. إضافة، فإن اليمين المتطرف عاد إلى ساحة الجدال بفاعلية تكاد تصل حد الوقاحة وسيكون له تأثيره في الأوساط الاجتماعية المترددة وضعيفة الحيلة في الثقافة والتثاقف. سيكون على من يحكم فرنسا في الشهر القادم بأن يُعيد موضعة الأولويات بعيداً عن الرغبة في اجتذاب الأصوات ويقلب المعادلة بحيث تصبح البرامج وتطبيقها هي الفاعلة في إعادة تكوين الوعي المجتمعي واجتذابه إلى التمسك بقيم تمزج بين الحلم والواقع. وفي النهاية، سيكون على اليمين التقليدي الخارج إلا بمفاجأة، أن يقرر ما إذا كان وفياً لقيم الديغولية أو أنه يسعى إلى الرقص على حبال التوازن بين التطرف والشعبوية ليعود ماسكاً زمام الحكم في جمهورية فرنسية ليست مريضة بعد بقدر ماهي في مرحلة مقاومة المرض وهي أصعب المراحل.