إستعرت هذا العنوان من مقال الدكتور سعيد بوطاجين لهذا الأسبوع.. هذا المقال الذي يجب أن يقرأه الجميع بقلوبهم قبل عيونهم وعقولهم.. ولا يجب أن يكتفوا به، بل عليهم أن يسارعوا للحصول على نسخة من الكتاب الذي يتحدث عنه: “عشت لأروي" للكاتب الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، وهو عبارة عن مذكرات كاتب فذ صارع الحياة بالكلمة فأرداها صريعة بين دفات كُتبه.. هذه السيرة التي يمكن اعتبارها رائعة روائية أخرى لماركيز، فيها الكثير من الاعترافات الجريئة وشحنة فريدة من الصدق والشفافية، تجعلك تندهش وتجد لأول مرة معنى حقيقيا لعبارة “تواضع العظماء" التي كثيرا ما توظف، خصوصا في هذا الزمن، في غير محلها.. منذ سنوات عندما صدرت هذه المذكرات أصبت بهوس الاطلاع عليها سريعا، وفي ذهني كنت أنتظر أن أرى سيرة ككل سير الأسماء التي قرأتها من قبل، بفضلها سأتعرّف على بعض التفاصيل والخلفيات وحتى الأمكنة التي جعلت من مركيز ما هو عليه، كيف عاش، ومع من.. وفي داخلي كنت أبحث بين كل هذا عن أمر واحد، كيف استطاع هذا الرجل أن يكتب كل تلك الروائع بتلك الجودة الخارقة؟ لكن منذ اللحظة الأولى لحصولي على الكتاب أدركت أنني لا أقرأ سيرة، بل رائعة روائية جديدة متكاملة، لا “سحرية" فيها، إنها رواية واقعية بأتم معنى الكلمة، بطلها غابرييل غارسيا ماركيز، الذي استطاع بخياله أن يخلق من ماكوندو في “مئة عام من العزلة" صفحات من الدهشة والجنون على مدى أجيال من أسرة واحدة، ومن الحب “حياة" وليس مجرد حالة في الحياة في رائعته “الحب في زمن الكوليرا".. في “عشت لأروي" لا يوجد فلورنتينو وفيرمينا دازا “بطلا رواية الحب في زمن الكوليرا"، ولا كل تلك الوجوه من عائلة “بوينديا" “أبطال مئة عام من الحكمة"، هناك وجه واحد.. وجه حقيقي.. بعد نيف وسبعين سنة جاء بكل واقعية وفي ارتقاء أدبي وتواضع إنساني يقدم الحكمة عبر تفاصيل صغيرة بمضامين كبيرة، كيف تعلم أن يختار وكيف دافع عن تلك الخيارات المبكرة.. يشير الدكتور بوطاجين إلى تحوّل ماركيز من دراسة الحقوق إلى العمل في الصحافة “رغم استياء الوالدين اللذين كانا ينظران إلى ميله باحتقار وريبة"، في الكتاب يسرد ماركيز جزء من خلافه مع عائلته بشكل عبقري، وهو يصف مشهد والدته التي جاءت تترجاه للعدول عن هذا القرار الذي أغضب والده، ثم يروي كيف سار الأمر وكيف أقلها إلى المنزل على متن عبّارة مقززة في رحلة بائسة، وهو مشهد روائي بامتياز. “عشت لأروي" لماركيز، و"منعطف الثمانين" لهنري ميللر، سيرتان لكاتبين تجاوزا النصف الأول من السبعين سنة، وعندما قررا كتابة مذكراتهما قالا أولا: “ممنوع القفز.. إني أراك".