..ما يسود عربيا يفصح لنا عما يراكم الفجائع ويجعلنا نجتر الإخفاقات، وما يفصحه لنا هو غياب ما يتناسب نخبويا مع الحراك الجماهيري وأهم عناصر الغياب ما يميز التعاطي الإعلامي السائد مع الأحداث.. في خضم المتشابك في أدغال ما يتدفق إعلاميا من صور وأصوات وعلامات، نحتاج إلى تحديد مساحة وضوح تتيح لنا تبصر الطريق وإدراك ما يتلاءم مع مقتضيات الوضع. المساحة هي في تحررنا من هيمنة الاتجاهات التي تشل الحراك وتجعلنا رهائن ما تطبخه وتبثه الدوائر الإعلامية المختلفة تبعا لأجنداتها. بعضنا مأخوذ بفيضان ما يجتاح المنطقة من حراك، وتأخذه النشوة إلى حد سكرة غالبا ما تغيب معها الفكرة. وبعضنا ملتبس بالوسواس، لا يرى في ما يجري إلا مؤامرات المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، وبعض يتهم إيران وهناك من يردد معزوفة القاعدة. فينا من يكرر التحذير من الفتنة ومن الفوضى ويردد الأقوال التي أدامت الغمة في حياة الأمة كالمستبد العادل “كأن العدل يلتقي مع الاستبداد" وكسلطان غشوم خير من فتنة تدوم... وفينا من يركب موجة جهادية منفصلة عن حيثيات فقه الجهاد الشرعي الصحيح... وسط كل هذا نحتاج إلى مساحة وضوح، مساحة نرى فيها الحراك منطقي وضروري، فالتغيير لابد منه في جميع الوضعيات. مساحة نرى فيها أن القطيعة ضرورية مع نظم تأسست على الظلم وتنامت بالخيانة والعمالة والنهب والتعفن... مساحة نرى فيها ضرورة ترتيب الأولويات وضبط الأعصاب وحشد الهمم والقيام بكيفية تحمينا من تدخلات الخارج ومن مناورات في الداخل. مساحة بمرآة ارتدادية نرى فيها الماضي لنشخص مواطن السقوط ومواطن العلل حتى ننسفها نسفا. المساحة تمتد بمكاشفات صادقة، مكاشفات نمارس فيها النقد الذاتي، ونتلاقى عبرها متحاورين بلغة لا تتوارى خلف شعارات ديماغوجية، لغة احترام متبادل مستوعب للمختلف ومنصت له. بالحوار الذي نوطن الرأي عليه نهندس الوطن الذي يتجسد فينا كمواطنين، مترابطين بعقد اجتماعي حقيقي، عقد المواطنة. ما يسود عربيا يفصح لنا عما يراكم الفجائع ويجعلنا نجتر الإخفاقات، وما يفصحه لنا هو غياب ما يتناسب نخبويا مع الحراك الجماهيري وأهم عناصر الغياب ما يميز التعاطي الإعلامي السائد مع الأحداث. في عالمنا العربي أكثر من سبعمائة فضائية وجزء منها إخبارية وبالتالي مرتبطة بأجندات خاصة بالقوى التي تقف خلف تلك الفضائيات، فضائيات تكثف حدثا هنا وتحجب حدثا هناك، توجه القراءة توجيها محددا ولضمان الرواج تزيد التوابل وتبث بدون تثبت كل ما تراه خادما لدفتر أعباء محدد من عرابيها. والشارع المتحرك يبحث عن مرسى ترتفع به ليلة الشك ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. والتحدي يواجه المشتغلون بالثقافة العالمة، بالنخب المشتغلة بالرمزيات والدلالات والمعاني... الأصوليات تكتسح المشهد بآليات الاستبعاد المتبادل والأصوليات هي كل تخندق في ما يعبر عنه أركون بالسياج الدوغمائي المغلق.. وفي مواجهة وضع كهذا فالسبيل كما يقول المفكر علي حرب: “لكسر هذه الحلقة الجهنمية هو أن أتفكر وأتعقل، بالارتداد على أفكارنا، لإعادة النظر في مفهومنا للهوية وفي طريقة ممارسة الاختلاف. فهويتنا هي أغنى وأوسع وأشد تنوعا وتركيبا من أن تحشر تحت عنوان واحد، أو وحيد، ولذا فإن أحادية الاسم والأصل والنموذج، هي فخ الهوية، كما هي مقتل الحرية". ص 201 “خطاب الهوية “. محاولة فهم آراء وتحاليل كثيرة تحاول فهم الراهن وطبيعة التحولات.. وكعينة نسق الرأي التالي: يكتب رستم محمود في لوموند ديبلوماتيك النسخة العربية لشهر جوان: «يطرح نهوض الإسلاميين الجدد مع الربيع العربي مشاكل جوهرية، تكمن في احترام أسس العقد الاجتماعي والدولة اللذان يمكناهما من التعبير عن آرائهم والوصول إلى البرلمانات والسلطة التنفيذية. ففي تونس ومصر كما في كردستان العراق وغيرهم، هناك مزج بين شرعيّة هذه التيارات وبين حقها في تغيير أسس الديموقراطيّة والمواطنة. في ظل صمت هذه التيارات حول الالتباس الخطير. لا يدخل الإسلاميون مجالات السلطة العامة والحكم في أكثر من بلد عربي في ظرف انتقال طبيعي؛ والمقصود هو ظرف انتقال للسلطة التنفيذية من تيار سياسي أو حزبي إلى آخر، كما يجري عادة في البلدان العريقة بالحياة الديمقراطية؛ حيث تشكل جملة الأعراف والدساتير والقوانين والقيم العامة والعقود الاجتماعية، الضابط والحكم والمؤشر لطبيعة ذلك الانتقال. ما يجري في حالات هذه البلدان هو شيء خاص. فما يتحوّل ويتغير ليس القائمون على السلطة والشؤون العامة فحسب، بل جل تلك الأعراف والدساتير والقوانين والقيم والعقود العامة التي تنظم مظلة الحياة العامة في هذه البلاد. وما يزيد تكريس خصوصية هذه الحالة، هو بالضبط الفهم والوعي الخاص الذي يملكه الإسلام السياسي لجملة تلك المفاهيم". والملاحظ أن البعض يتمترس أيديولوجيا وبالتدقيق دوغمائيا فينغلق متمترسا بسياج مغلق وينتج تطرفا موازيا، واستبعادا محسوما كما هو حال من يرفضون أي حق في الوجود لممثلي التيار الإسلامي فيطالب من تسلموا الحكم من الإسلاميين في تونس وتعم محاكمات النوايا ومطالبة الفائزين الإسلاميين بالتنصل من خلفياتهم وانتماءاتهم، في حين أن المنطق يفيد بأن أي سياسي يرتبط وصوله إلى الحكم بمشروع اختاره الناس على أساسه، وعهدته تعتبر محكا لاختبار مشروعه. مصيبتنا أن هناك سياجات دوغمائية، مثلما هناك تطرف إسلاموي، هناك تطرف علماني وأصولية لائيكية، تناصب كل ما له صلة بالدين العداء وتطرح علمانيتها كدين بديل بسدنته وأقانيمه. الراهن العربي يفصح عن حاجتنا إلى إعادة هيكلة عقلنا ونفسياتنا للتمكن من الانخراط في العصر وللتمكن من تملك عناصر القوة الحضارية، وأول عناصر القوة التحرر النفسي من كل القيود النفسية والذهنية التي أعاقتنا على التبصر وعلى إدارة المصير بإبداع للحياة، بكل ما تعنيه الحياة من دلالات. الراهن العربي يفصح عما تتلبس به النخب أو من يفترض نسبتهم إلى النخب من العلل التي جعلتهم خارج التغطية. المواجهة بعد سنتين من بداية التحول في المنطقة، دخلت البلدان التي أطاحت بحكامها السابقين في منعطفات حرجة وحاسمة... في تونس رقعة الاحتجاجات تتوسع وفي مصر الشرخ يمتد وفي ليبيا الهزات تتوالى... وبالتالي تواجه البلدان الثلاثة التحدي الأكبر الذي يلي أي عملية تغيرية، التحدي الذي قد يمثل تقدما أو ارتدادا تبعا لوجهة الأحداث. إن التغيير لن يستوي إذا لم يشمل كل الجوانب ويحقق التحول المتجاوز لتبديل اسم باسم ولون بلون.. وما جرى في المنطقة ظل أسير أطروحات انطوت على تضليل كثف من البعد عن تمثل متبصر... أطروحات الذين ضخموا ما حدث ونشروا أناشيد الربيع والثورة، وأطروحات الذين سفهوا واعتبروا كل ما جرى من طبخات المطابخ الغربية. إن ما حدث يستدعي تدبرا يضع الأمور في نصابها، لقد أدى الشعب الدور كاملا وتحرك لتغيير المعادلة ورمى الكرة إلى النخب بكل أنواعها لأداء أدواها.. وما حدث يجدر التنويه به لأنه حقق إنجازا مهما ومعتبرا يشكل رأسمالا لصياغة التاريخ، الانجاز في كسر الحاجز النفسي وإزالة الهالة اللاهوتية التي غلف بها الحاكم نفسه، إنزال القصر إلى الشارع وجعل صاحب القرار يفكر في رد فعل الشعب قبل المبادرة بأي إجراء، ومن هذا المنطلق ورغم كل القلق فإن في ما تشهده شوارع تونس ومصر بعض ما يحمل مؤشرات الخير والأمل. ولكن لا ينبغي تناسي أن المد الشعبي قد يصبح خطرا على الشعب نفسه إذا ما افتقد التأطير الذي ينضج به الحراك، والتأطير من مهام النخب التي تحمي الحراك من الاختراقات، اختراقات من يسميهم المصريون بالفلول واختراقات الدوائر الخارجية التي تنتشر للاحتواء والتوجيه.. التأطير الذي يعقلن الانفعالات والأحاسيس ويحول الشحنات الانفعالية إلى قوة فاعلة. الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج في منعطف حاسم، في تونس ومصر وليبيا واليمن، وفي سوريا التي تواجه شبح مجاهيل الفوضى المدبرة اقليميا ودوليا، وفي البحرين وبقية بلدان الخليج القائمة على الآبار النفطية وفي بلدان الشمال الإفريقي التي تواجه تحديات مركبة وتتاخم الرمال المتحركة في منطقة الساحل. الأصعب ما يتشكل حاليا من تحديات والاستجابة لهذه التحديات هي التي ستحدد وجهة الأمور وكما لخصّ توينبي مسار التاريخ البشري فإن القاعدة هي “التحدي والاستجابة". وبقدر ونوعية الاستجابة للتحديات يكون المسار والأمل ألا تتكرر الأحداث التي تتابعت طيلة قرن منذ ما سمي بالثورة العربية في الحجاز إلى ما سمي بالربيع العربي.