أكثر من نصف قرن مر والمثقف العربي يقتات من هزال نظرياته وجموح عواطفه وفضائح تكتيكاته، إن قومية اشتراكية بعثية هي وإن رأسمالية كمبرادورية متعددة الأوجه والاستعمالات هي وإن إسلامية أصالية محافظة رسولية مطلقة.. لكن النهضة لم تحصل والتغيير ما وجد سبيلا له إلى التحقق والمشاريع تتراءى وتزداد بيد أنها تصل مغلفة، محكومة بطابع نشأتها وسياقات اندراجها في الحالة التاريخية، لقد بدت أفكار المثقفين نطفة أمشاج في رحم الجغرافيا العربية، تولد لتموت، تستنسخ من عطاءات الغرب المعرفي والأيديولوجي فتصل إلى مرمى من أهداف لا تسجل ونبوءات لها الحظ العاثر وخطابات تنزلق في مهاوي التهتك والتبذل والانكشاف.. مكر المثقفين، خديعتهم، هواماتهم وتهويماتهم، نفاقهم، فتنهم كقطع الليل المظلم - بالتعبير النبوي - انقسامهم إلى علي ومعاوية والحجاج وإلى ملوك طوائف وبرامكة إلى عصابات ومافيات ما كان ذلك إلا ليزيد في وصمة العار وعبثية الموقف ومخازيه.. إذ لم يكن إلا انفصامية بائنة بين المنظومة العقائدية الخلاصية التي لم يتريث يوما المثقفون في حملها على أكتافهم أمانات، أمانات ومنظومة سلوكية تباعد الشقة وتفصم العروة عن دعاوى الخطاب وألفبائيته.. في العقل العربي، نقد العقل العربي، نقد النقد، الشعور الجمعي، اللاّوعي القومي، العلمانية، اللاّئيكية، الأصالات، التيار المحافظ، الاستنارة الإسلامية والاعتدال، الوسطية، الممانعة، المقاومة، مصطلحات من الغزارة بموضع ومكان تتوالد وتنتشر بين طيات الورق الصقيل وعلى أفواه المخاطبين وعلى فوهات الراديوهات والقنوات والملتقيات جسدت التمايز الطبقي غير الحقيقي بين فئات المجتمع العربي المهتلك من داخله وبين إرث كولونيالي دموي أعمى في بصيرته وإرث نفطي استغلالي رماه إلى بئر عميق وإرث بسيكولوجي مدمر فيه الكثير من البارانويا والعقد الاصطفائية.. نحن اليوم في الغياب، في ظلام المثقفين، في ظلام بيوتاتهم التي خربوها بأيديهم ومن وحي شعاراتهم العصبوية واصطفاءاتهم الميلشيوية، ولقد أفاقت الثورات العربية البكر عن اللامشروع الثقافي العربي، وعن مخادعات التنوير السبعينية، كما هو الشعار المصري وقت حسني مبارك وسوزان - سبعون عاما من التنوير- وعن هزيمة الهزيمة لا في النصوص والأدلوجات بل كذلك في الحوار ومتطلباته، في العمل الوطني المطلبي وشروط انبثاقه بما يخدم تطلعات المواطن العربي.. وفي الهيئات والمؤسسات والجمعيات الرسمية وغير الرسمية التي وقفت باهتة لا تلوي على شيء، مفرغة اليدين والحساب.. نهض الشارع مسنودا بقوة ناعمة، فائقة النقلات، غير خطابية بوقية، كانت الفكرة مذهلة والهوس بها هداية في الدرب والشغف بالتواصل الاجتماعي المحلي والعالمي هو شغف في ألا تظل الأحوال على قتامة يأسها.. إن كل التحاليل التي كان يشق لها الغبار ولا يشق لطالما أفضت إلى تاريخ الاستبداد المستديم القويم الذي تضطلع بقوامته الدولة القومية بحكم شراكتها في مناهضة القراءات الاستعمارية، مثلما كان يفضي التحليل إلى مصائر حلم عربي مؤجل ينسند على الإصلاح المتروي، الهادئ، الديمقراطي، فيما أن النخب المثقفة هي من كان يسوغ للعسكر تاريات هذا التسويغ بالمعنى الذي يجري فيه التحذير من مخاطر الأجنبي وتدخله الفيزيائي والكيميائي، بالنعومة وبالتوحش، ولم يكن منذ ذلك الوقت وحتى اللحظة أيما انصرام إلى بناء نهضوي حقيقي يكفل الوطنيات النائمة ويعضدها، إن الوطنيات سادرة في غيها، سباتها عميق وشخيرها يسمع في الليلة الليلاء حتى إذا اصطدمت المؤسسة السياسية بالتحديات المعلنة وأخرى خفية يحدث التهويل والتعبئة وإعادة الصياغات للفكر الوطني باستنهاض مكنوناته ومشاعره.. في النصف قرن وأكثر الذي مر لم تسجل على العالم العربي إلا قابليات للاستعمار، للاستحواذ المحلي على الثروات، للحكم الستاليني الشرس، فضلا عن أعطاب أخرى واختلالات في الهياكل والأبنية والتصدعات بين بني الأهل والعائلة والدين والأمة ولم يتم ردم هوات وجراح مختلفة مواضعها في الجسد الواحد إلا عبر الهروب إلى وصفات التحقين والتسكين، ثم إلى البتر والقطع والاستئصال والراديكالية دونما القراءة والتأويل والفتح والمناظرة، كان واضحا أنه ليس لدينا يسار أو يمين أو وسط، وحيث لدينا يسار اليسار ويمين اليمين لا توسط في ذلك ولا مداولة ولا نقاش، إنّه اليوبيل الفضي للتطرفات العربية، تعامل الأفكار بوصفها هويات، يعامل أصحابها بوصفهم أنبياء، ثم ليطلب من العامة التصديق والعبادة أو التصفيق والتهليل أو التوسل والشفاعة، لقد قدم معظم المثقفين العرب من الأرياف الرثة ومن مسالك الصفيح نحو المتروبول الموروث بالدم والشهادة فلم يكونوا إلا طالبي رغيف ورغيد ويسر معاش والحال كذلك، إذ سايروا موضات الفكر العالمي ونشطوا في الجمعيات المعترف بها والسرية وتماهوا في سلطوية حاربوها وابتغوا رضاء السلطات المانحة، فشارك معظمهم في الحزب والنقابة والمسجد والحكومة كما تهمش جزء منهم ممن ارتضوا مسلكا غامضا ورضي فريق منهم من الفتات وخشاش السلطة.. كما وصل بعضهم إلى برجزة زائفة مشدودة الوثاق بطفولات البؤس وأسمال الوضاعة فتقاعسوا عن النضال الكتابي، النصي - في حده الأدنى - ورأسملوا صعودهم الاجتماعي عبر مطاردة المغنم والاستجمام والجوائز والتكريمات ولم يعد من بينهم سارتر ولا كامو ولا كاتب ياسين ولا مالك حداد، لقد بدل المثقفون الساحة بالصالون واستعاروا باروكة الشعر من الأرتيستات وكفروا بمظفر النواب ومارسيل خليفة والشيخ إمام، ليس ثمة من توصيفات تليق أو مراقبات ترصد حراك المثقفين حول أنفسهم ومشاغلهم الحالية وحول ما يحدث عندهم اليوم، لقد خفت الشعار الماركسي في حذاء بوتين، وخفت الشعار الرأسمالي في ألاعيب ساركوزي وخفت الشعار الإسلامي في الهاتف الجوال لأوباما، وليخفت الشعار المثقفي في المغانم والقصور والردهات.. إن دواخل المثقفين العرب - معظمهم - صارت هي دواخل برنار هنري ليفي المريضة، الحرب مكسبا، السلطة بريقا، الصورة نجومية والعلاقات منافع وزبائنيات، بينما كان مثقفا من طراز فؤاد عجمي اللبناني الأمريكي المادح المتزلف للسياسات الشرهة لأمريكا وإسرائيل نقطة سوداء في فرات العرب ودجلتهم التحق الحين كثر منهم بالمنطق ذاته في التحليل والتأويل والرصد، كانت الثقافة والنظم وسلطة المتن وبلاغة الأدلوجة هي الحكم والفيصل والآن لا، الطباع حادت عن السليقة المنحدرون حبوا بلغوا سدة المتروبول... الزمانات العابرة كانت تشي بالآمال الواعدة والضوء والشمس وإننا اليوم أما شمس الإمبراطورية الغائبة، شمس المثقفين التي لم يعد يقدر عليها أحد. رغم أن الثورات العربية لم تكن أبدا منطلقة في نسق واحد أو منتظمة فيه على النحو الذي كانتا عليه ثورتا تونس ومصر إلا أن الذي حمل أدونيس على موقفه المعروف ينبغي أن يقرأ ويفكك على منحى الإثراء والمجادلة والتنويع، أدونيس برؤيته الباطنية، بهيمنته الرؤيوية على الساحة، بتجريداته وخياله بدا في صدمة من أمره في اعتراضه الثوروي على كامل بوصلة الربيع العربي ورياحه الشرقية فإما شرق دائم في تسلطه أو رياحه الغربية وإما غرب جائح إلى ذاكرته الإمبريالية وفنتازماته الغرائبية.. ثمة هشاشة أدونيسية غريبة من مثقف كوني، انساني، اخلاقي، معاد للأصوليات على أن ذلك كان من الباطل المزهوق في تصور أن الثورة السورية هي ثورة جوامع ومشيخات لا ثورة دنيوية علمانية، ثورة انسان وعيش هنيء ورغبة وتطلعات، اصطف شاعر الفلسفة والأنوار والصوفية الاصطفاف النكوصي ذاته الذي أغرى مثقفين حداثيين عديدين بجبهة الصمود والمقاومة ضد التصورات الكليانية لدولة إسرائيل وحاصل الفكرة أن تغدو خطابات المثقفين متهافتة مصاحبة لانفكاكات الأنظمة الرخوة وسقم مشاريعها بعد أن استهلكت الأدبيات الثّورية وعجزت عن استنهاض الهمة الوطنية التي اضمحلت من بعد اشتعالات وتوهج. لقد عزلت الاحتجاجية العربية ذات النفس الشباني البحت فيما عزلته الحاكم العربي ومؤسسته المستعصية على التطوير والمثقف العربي المماهي لنموذج سيده القائم على الآليات والإجراءات والأسرار التي أكل عليها الدهر وشبع منذ قرن أو نصفه أو يزيد.. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته عبد الوهاب معوشي ![if gt IE 6] ![endif] Tweet المفضلة إرسال إلى صديق المشاهدات: 1 إقرأ أيضا: * نُخب.. يا سيادنا * في قلق الإبداعي * الشاعر الذي رأى * الربيع العربي.. مساحة الوضوح * a href="/trace/37-trace/48490----------2-----.html" title="تحت عنوان “الربيع العربي في الميزان".. جامعة الجزائر 2 تناقش حراك الشارع العربي"تحت عنوان “الربيع العربي في الميزان".. جامعة الجزائر 2 تناقش حراك الشارع العربي * الأنا و«الآخر»