... موسى بيدج هو الأديب، الصحفي، المترجم والشاعر الملتزم بقضايا الوطن والإنسان وتحرره من ربقة الإستعمار والإضطهاد إلى حد الهوس، يزاوج في طرح المسائل الثقافية بين الذات والموضوع، وأنت تقرأ أشعاره تجد أثار الرومانتيكية ماثلة في توجهه الفني نسجا ومضمونا، ولعل تمرسه في مجال الترجمة من الفارسية إلى العربية والعكس جعلته يطور أدواته الشعرية فازداد تألقا وتوهجا، كيف لا وهو الذي يمد جسور التواصل الأدبي بين شرق وغرب الأمة الإسلامية. 'الأمة العربية' كانت لها فرصة اللقاء بالأديب والشاعر المتواضع 'موسى بيدج' إثر تواجده بالجزائر، فعادت بهذا الحوار الذي يحدثنا عبره عن عديد من القضايا ذات صلة بالفكر والثقافة العربيتين. "الأمة العربية": باعتباركم من الأصوات الأدبية المتميزة، كيف تنظرون لمسألة المثقف في الوطن العربي ودوره في صناعة الوعي؟ الكاتب المترجم والشاعر الإيراني "موسى بيدج": المثقفون هم القادة الحقيقيون للمجتمع، مشاركتهم في صنع القرار تؤدي الى ترشيد الثقافة الواعية وغيابهم عن الساحة تؤهل ثقافة الاستهلاك. مشكلة صناعة الوعي اليوم تنحصر في نقطتين الأولى: تهميش المثقف طاعة وكرهًا عن ساحة القرار، وثانيا طغيان الإضطرار الإقتصادي الذي يعتم الحياة الثقافية والترفيهية للناس والمجتمع. فصناعة الوعي يحتاج الى مساحة من الرفاه أوالى هدنة نسبية مع ضنك الحياة كي يتسنى للمثقف أن يقوم بواجبه. اذن، مثقفنا اليوم مع وجود هكذا محنة، يحاول أن يتفاعل مع واجبه ومسؤوليته. هل يمكن القول إن السياسة لها دخل في تدجين الثقافة والفكر؟ السياسة تحاول دومًا أن تصادر الثقافة لنفسها، أو أن تجعلها عربة تصل من خلالها الى قلب المجتمع، وذلك لكون الثقافة تضرب جذورها في قلوب الناس، لكن تبقى نقطة اختلاف الثقافة والسياسة هي أن الأولى واضحة المعالم والثانية تعيش في الظل. وعلى هذا، فالثقافة غير قابلة للتدجين إنما تتأثر بأخلاق السياسة سلبًا. تتفق معي إن قلت إن غياب منابر الوعي والفعل المعرفي الأصيل أدى إلى سيادة ثقافة إستهلاكية؟ لا نستطيع أن نتحدث عن غياب، لأننا نتلمس وجود حراك ثقافي وإن كان موسميا، لكن أظن أن السؤال الذي يطرح هو؛ هل نحن راضين عن هذا الحراك، هل يكفينا أم لا، أرى بأنه يجب أن نتحرك أكثر وأعمق، وعلى المثقفين والكتاب خاصة أن يخوضوا حوارهم مع المجتمع وليس النخبة، لأن مشكلة المثقف أنه يكتب بشكل غامض ومبهم كأنه قد انسحب عن المجتمع ويقيم في قصر من الزجاج، يرى ولا يسمع، المسألة أن الحراك موجود، لكنه ليس على مستوى الحدث خاصة أن نعيش في عالم يستوجب علينا أن نتحرك في قطار بسرعة 400 كم في الساعة كقطار أوروبا وليس قطاراتنا بسرعة 70 كيلومتر. في اعتقادكم، هل الثورات العربية ستدفع بقطار الثقافة للأمام؟ والله.. من المفروض أن الثورة تدفع الثقافة للرقي، ولكن أظن أننا نحتاج قبل هذه الثورات إلى ثورات ثقافية ووعي فكري للتخلص من المشاحنات بين الأحزاب والأطياف التي تعتبر نفسها أنها سيدة الحق دون غيرها. في حقيقة الأمر أرى أن بعض الثورات التي مضى عليها وقت مازالت لم تستقر وتعرف أزمات داخلية، صحيح يجب على هذه البلدان أن تتخلص من الديكتاتورية والإستبداد، لكن ما العمل بعد هذا هو السؤال الجوهري.. أنظري مثلا إلى التغيير في ليبيا، تونس، مصر والعراق فلم تنطلق بعد في عملية الإعمار ولازال الخراب سيد الوضع، عموما أقول إننا بحاجة إلى ثورة ثقافية وأخلاقية قائمة على فتح الحوار الواعي مع الأخر في حركة حضارية جميلة. إذا تحدثنا عن الكتابات الإستعجالية ما بعد الثورة، في ظنكم هل تشكل منحى التزامي للخطاب الإبداعي؟ لكل حادث حديث، فالثورة اذا كان فيها هتافات وشعارات وضرب ومظاهرات، من الطبيعي أن تنتج أدبا استهلاكيا يشبه الصحافة، إلا أن دور الأدب له تأثير بطيء على المتلقي، بينما دور الأدب الصحفي فله التأثير الأني الإستعجالي، وما نتج عن الثورات العربية من إبداع سريع أراه يشبه أكلة "الفاست فود". في الغالب تتسم بنية النصوص الروائية العربية بتعرية بؤس الإيديولوجية السائدة وعلى حد قول 'أدونيس' هي فضح للسائد والثابت، فهل تسعى إلى تثوير الكتابة كمدخل لتنوير الفضاء الإجتماعي؟ الكتابة، إذا كانت تنبع من المسؤولية التي على عاتق الكاتب، فهي ثورة بحد ذاتها وكل كاتب مسؤول يعمل على التغيير والتنوير والا فما معنى أن يكتب ويجتر السائد؟ طبعا ليس كل سائد سلبي، ويجب أن يفضح، فربّ سائد فيه شيء من الحقيقة، فآنئذ يجب على الكاتب تفعيل الطاقة الكامنة في ذلك السائد نحوتلميع الحقيقة. اذا فالكتابة هي ثورة مستمرة لتنوير ظلمات المجتمع. تعتبر الروائية 'علوية صبح' الجنس ليس موضوعا ذهنيا ملتصقا بالشخصية، بل وسيلة لإستنطاق سلوكات وذهنيات، في تقديرك هل هناك جرأة في معالجة قضايا الجسد في ظل الفقر الأدبي دون الذهاب إلى عمق الأشياء؟. قضايا الجسد، إذا أقيمت سايكولوجيًا كموضوع يبتني عليه الكثير من سلوكيات البشر وخيالاته الواقعية، فلا بأس أن يتطرق الكاتب إليها، ولكن عن معرفة ودراية بدهاليزها وأروقتها وأزقتها وفلسفة وجودها وعلاقتها بواقع الانسان، وخاصة في عصر الحداثة وتشابك وتهالك الأذهان.. إما إن كان إقحامها في المادة المكتوبة كما تقحم مشاهد الإثارة في الأفلام الأمريكية، فهذا شيء مردود، لأن هكذا سلوك سيكون فقط من أجل اعتلاء المبيعات. وعلينا أن لا ننسى أن ثقافتنا لا تسمح لنا أن نسمي الأشياء كلها بأسمائها، فربّ أشياء تغيب وتزداد جمالا... اشتغل بعض الكتّاب العرب بموضوع الأصولية وكيف يصبح الإسلام عيارا ناريا غير تفكيري، بل تكفيري، هل أدلجة الإسلام وتسيسه يشكل ألقا لديك؟ الإسلام هو دين الفكر والإنسانية وليس العبادة العمياء وجمود العقل. الإسلام دين المحبة والسماح والتعايش مع الأديان الأخرى. صحيح أن الاسلام يدعو إلى "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة"، لكن هذا لا يسمح بظهور قراءات تكفر كل ما هو "الآخر"؛ بمعنى إما أن تكون معي أو ستكون عدوّي! أنا لست مع هذه القراءآت وانما مع قراءة لقد خلقناكم أمة وسطا. أي الوسطية والاعتدال. الأكيد أن الظروف العامة للبلاد العربية تؤثر على العمل الثقافي، برأيكم ما معيار نجاح أي عمل أدبي في وقتنا الراهن؟ العمل الأدبي، قصة أو رواية، يحتاج كي يصدقها القارئ ليستمر في القراءة، يعني على الكاتب أن يرسم شخصياته من الواقع ويطعمها بالخيال حتى يكسب تلك الثقة عند قارئه وفي هذه الحالة سيكتب له النجاح. فالشخصية الفنية ان كانت لا تشبه أحدا فلن يحبها أحد. إسمح لي أن أعرج على موضوع الترجمة، وبما أنك من الدؤوبين على عملية الترجمة بين الأدبين العربي والفارسي، بماذا تخدم الترجمة؟ وكيف يمكن توظيفها في التقارب بين الثقافات؟ الترجمة هي عملية نقل ثقافة بين جغرافيا لغتين وحضارتين. فاذا كان في حضارة "ألف" كلام يفيد الانسان في مسيرة حياته في حضارة "باء"، ينقل المترجم ذلك الكلام المفيد الى جغرافيا أخرى ليستفيد منه أكبر عدد ممكن من الناس. وكي أختصر مفهوم الخدمة التي تقدمها الترجمة، سأحصرها في نقطتين؛ النقطة الأولى هي التعرف على ثقافة الآخر، والثانية استلهام المواضيع وتوظيف الحلول المطروحة فيها عند المتلقي. ترجمت للكثير من الشعراء والكتّاب العرب إلى الفارسية، هلا أعطيتنا فكرة عن هذه الترجمات وعن الأسماء التي تأثرت بها؟ شعريا أنا ترجمت لمائتي شاعر عربي بدءًا من رواد الحداثة مثل السياب وأدونيس، ومحمود درويش، وسميح القاسم، ونزار قباني، ولكن من بين هؤلاء اذا أردت أن أختار فسأختار محمد الماغوط، لأنه قريب من روحي، وأجد نفسي أشترك معه في الروح الساخرة فأنا أحب المرح والنقد، لكن هذا لايعني أنه لا تستهويني مجموعة نزار قباني التي ترجمتها فلقد اخترت 15 قصيدة من عشرين ديوانا قرأتها مرات ومرات، وقد تعرف القارئ الإيراني على هذا الشاعر من خلال الترجمة، الأكيد أنني أحببت هذه القصائد وبالتالي ترجمتها، شعراء كبار لم أقترب منهم روحيا، لكن التزامي بأن اكون همزة وصل بين الشعر الإيراني والعربي، دفعتني كي أترجم لشعراء قد لا أحب قصائدهم، ولكنني ترجمتها من منطلق انهم مشاهير ولهم مكانتهم في الأدب العربي الحديث. عموما الترجمة هي عملية ولادة جديدة لمخلوق في لغة أخرى.
كيف يتلقى القارئ الإيراني الكُتب التي تترجمونها؟ هذا سؤال وجيه، القارئ الإيراني مثل القارئ العربي يستهويه الغرب وليس الشرق، وعلى هذا قارئنا يحب أن يقرأ للغرب. هذه هي القاعدة، ولكن لكل قاعدة إستثناء. الكثير من الشباب يحبون قراءة النصوص الشرقية، لكن هذا الأمر لم يحصل بسهولة، قبل عقدين من الزمن حين كنت أترجم الشعر العربي وأقدم ترجمتي لدور النشر يقولون لي هل مازال العرب يكتبون الشعر أم انه انتهى منذ زمن المعلقات!! فكان علينا أنا وزملائي إثبات أن العرب لديهم شعر وشعرهم يشبهنا. وجود هذا الشبه يدل على وجود نقاط مشتركة تجمعنا. فعندما نتصفح كتب التاريخ نجد أن أهل يثرب كانوا يستخدمون في محاورتهم اليومية بعض الكلمات الفارسية لوجود طائفة ايرانية تعيش في يثرب، هذا التفاعل الثقافي والإجتماعي كان قبل الإسلام وتواصل الى ما بعد الإسلام، فالكثير من العلماء الإيرانيين كتبوا أفكارهم بالعربية وأضافوا أشياء كثيرة للعلوم الإسلامية، وطبعا تبقى اليوم الموضة السائدة في أوطاننا العربية الإسلامية التوجه لكل ما هوآداب غربية. برأيكم، هل هو الفقر الأدبي في أوطاننا؟ ليس تمامًا.. وإنما له أسباب أخرى مثل عدم الثقة بالنفس، واعتبار الأدب الغربي هوالأهم هذه من جهة.. ومن جهة أخرى، عدم بروز وانتشار الكثير من الأعمال الأدبية في بلدانها قد أثرت سلبا على حجم ونوعية الآثار الأدبية. ما موقع الجامعة الإيرانية في تعزيز التبادل الثقافي بين الدول العربية؟ سلك التعليم في الجامعات الإيرانية يعمل على مشروع تعلم اللغات، لدينا المئات من الطلبة الذين يدرسون الأدب العربي في محافظات كثيرة، ولكن ليس كل من يتقن لغتين هو مترجم. ففي بلدنا، هناك 4 مليون عربي ليسوا مترجمين وملايين ممن يتكلمون اللغة التركية الأذربيجانية والفارسية، ولهذا السلك التعليمي يعمل ما عليه لتعليم اللغة في مناهج دراسية منتظمة، ولكن الترجمة هي مسألة فردية، وعلى الجهات المعنية بالثقافة أن تساهم في تكوين رابطة للمترجمين بين العربية والفارسية ويكونوا على اتصال بأصحاب اللغة المعنية ثم بعدها نناقش ماذا يجب أن يترجم الطالب الجامعي. في مصر مثلا، هناك المشروع القومي للترجمة الذي خصص جزءا مهما لترجمة الكتب الإيرانية، هذا المشروع يعد إنجاز كبير وليس له مثيل لدينا أولدى البلدان العربية الأخرى، لكن ليس كل الكتب التي اختيرت جديرة بالترجمة. وللإشارة، لقد ترجمت رواية لشابة مغمورة ووضعت الى جانب عمل كبير ككتاب المثنوي في ستة أجزاء لجلال الرومي، ومن ثم وجب التنسيق بين الجهود لمعرفة ماذا نترجم، لدينا مشكلة أخرى وهي القيام بعدة ترجمات لكتاب واحد في نفس الوقت، إضافة إلى تحايل بعض دور النشر على القارئ بهدف الربح بطبع الكتاب بعناوين مختلفة فمثلا كتاب جبران خليل جبران طبع بعنوان رسائل جبران إلى مي زيادة ورسائل سماوية من جبران ورسائل زرقاء، ورسائل.. إلى آخره... في هذه النقطة بالذات، ألا تعتقد أن المواقع الإلكترونية والمدونات، هي جسر للتعرف بما يقدمه الأخر عن الترجمة؟ أكيد، فهي جسر جميل ومفيد ولا تحتاج الى تأشيرة دخول الى البلدان الأخرى البعيدة والقريبة. لكن المشكلة أنها لا تخضع لأي رقابة، من ناحية جودة النص أوعدم أهلية المترجم وإجادته للغة التي يترجم منها واليها، ولكن في كل الأحوال فإن الانترنت ثورة كبيرة لتقريب الثقافات والتعارف بينها أكثر فأكثر. بماذا سيثلج قلم أديبنا في القريب العاجل؟ أنا في طور كتابة رواية تتحدث عن مجتمعنا الإيراني قبل عقدين من الزمن، أي في فترة الحرب العراقية الإيرانية، قصة حب وحرب، قصة حياة مليئة بالصخب وبالتضحيات. الرواية عبارة عن صور لأناس يضحون بالغالي والنفيس من أجل غيرهم وأناس يحتكرون لأنفسهم كل شيء.