محمد أرزقي فراد ferradrezki@yahoo.fr سررت أيّما سرور بهذا الملتقى الذي طالما انتظرناه باعتباره خطوة في الاتجاه الصحيح، فقد صار مفهوم الديمقراطية أسير من المثل في المجتمع إلى درجة أن أصيب المواطن بالتخمة، ولكن كم مستعمل لمفهوم الديمقراطية أصابه؟ لقد حولناه إلى شعار مخادع يسافر في خطابنا السياسي، بيد أنه سرعان ما يذهب جفاء عندما يصطدم بالواقع. إذا كان صحيحا أن الديمقراطية ليست مفتاحا سحريا يفتح لنا مغارة الحداثة لنجد فيها ما نشاء من رغد العيش، فمن الصواب أيضا أنها ليست بضاعة كفر صدرها الآخر ليفسد علينا صفاء عقيدتنا. إنها مجموعة آليات تساعد على تحقيق قيم الحرية والعدل والكرامة. إن الديمقراطية الحقة تمدن وثقافة تطبع سلوك المجتمع قبل أن تصير أحزابا وسلطة، تبدأ باحترام الآخر بفتح منابر الحوار لممارسة وظيفة النقد، باعتبار تجارب الإنسان سلوكا بشريا يحتمل الخطأ والصواب، ولا يستطيع المواطن أن يمارس سيادته بوعي ونجاعة إلا في أجواء الحوار والحرية الإعلامية التي تمكنه من الإحاطة بقضايا المجتمع من خلال الإطلاع على الرأي والرأي الآخر. وبالنظر إلى أهمية وظيفة النقد في المجتمع بصفة عامة والميدان السياسي بصفة خاصة، فلابد أن نتجاوز اعتبارات المجاملة مع الآخر خاصة إذا كان متبوئا سدة الحكم التي تخوله القدرة والحق في إصدار الأوامر، لذلك فالنقد في هذا السياق يهدف إلى تلافي توجيه هذه القدرة وهذه السلطة إلى غير محلها. وما من شك أن الصراحة لا تفسد للود قضية لذا لن أجد حرجا في استعراض وجهة نظري حول تعثر التجربة الديمقراطية في الجزائر خاصة وأن الغاية من ذلك هي دفع الصيرورة الديمقراطية نحو الأمام حتى تصل إلى نقطة اللارجوع. مما لا شك فيه أن الجزائر تملك معظم الشروط الضرورية للتحرر من فكرة الزعيم ومن ذهنية عبادة الفرد وللانطلاق نحو بناء دولة حديثة ذات مؤسسات قوية تكون فيها السلطة أداة طيّعة لخدمة الصالح العام. غير أن حلقة هامة مازالت مفقودة ومغيبة لاكتمال دائرة الشروط، إنها الديمقراطية. ولعل المفارقة العجيبة أن طرفي الحراك السياسي (أي السلطة والأحزاب السياسية) يدعيان وصلا بالديمقراطية، غير أن الواقع لا يقر لهما بذلك، والحقيقة أن مفهوم الديمقراطية المظلوم قد صار ينسجم عليه ذلك القول الذي خرج من رحم تراثنا مفاده »كلمة حق أريد بها باطل«. ومما يؤكد ذلك أن هذا المفهوم قد تحول إلى مجرد شعار تلوكه ألسنة الخطباء السياسيين حكاما ومعارضة، يقدمونه على أطباق الخطب الرنانة في المواسم الانتخابية وخارجها، فكان حالهم كمن سقي الظمآن سرابا، وكان حالنا كمن تغذى في المنام. ومما لا يختلف فيه عاقلان أن الجميع يدرك أهمية وضرورة الديمقراطية ووجوب بناء صرحها، فالغرب قد وصل إلى ما وصل إليه من رقي ومدنية وحضارة ورغد العيش بفضل الأنظمة السياسية ذات الأسس الديمقراطية. لكن من يتعاطون عندنا السياسة (ولا أقول الطبقة السياسية)، قد وضعوا المغانم نصب أعينهم ولبسوا جلد نمر للمبادئ. وبذلك صار الفعل السياسي لا يعدو أن يكون مجرد حصان طروادة للولوج إلى عوالم المغانم. الأمر الذي أدى إلى بروز صور كاريكاتورية يتجلى فيها »العبث السياسي« من خلال التحالف غير الطبيعي بين الأحزاب السياسية المتناقضة من حيث الرؤى والبرامج السياسية. وإذا حاولنا أن نغوص في أعماق الأسباب التي أدت إلى تبخيس الفعل السياسي، وبالتالي إلى تشويه الديمقراطية، فإننا سندرك أن الداء يكمن في كون الممارسة السياسية عندنا لا تستند ولا تتكئ على الفكر السياسي الذي تنتجه الجامعات ومؤسسات البحث والمفكرون، لأن النظام الشمولي قد أغلق باب المنافسة السياسية، على غرار ما حدث في مجال الاقتصاد الموجه. ومن نافلة القول التذكير بأن تغييب المنافسة وتكريس الأحادية السياسية يعتبر فتحا مبينا للرداءة التي تختزل الديمقراطية في الشعارات الجوفاء والشعبوية الصماء وذهنية القطيع التي لا تقلق الحكام. هذا ومن جهة أخرى فهناك أسباب اجتماعية تفسر ظاهرة الفصل بين الممارسة السياسية والفكر السياسي تؤكد أن الديمقراطية في جوهرها ثقافة وسلوك قبل أن تكون أحزابا سياسية، ونظام اجتماعي قبل أن تكون نظاما سياسيا، وهكذا فإذا كانت الديمقراطية شرطا للإقلاع الحضاري فإن استنباتها مشروط بوجود مجتمع واع يراه البعض في الطبقة البرجوازية المغيبة في العالم العربي بفعل سياسية حرق المراحل المنتهجة من طرف الدول الوطنية التي أنشئت بعد تحرر الشعوب العربية، فبرأي الكاتب جورج الطرابيشي فإن البورجوازية هي الحامل الطبيعي للديمقراطية، وبانعدامه تنعدم. كما أن البراعم الديمقراطية التي تماهت مع البرجوازية البرعمية غداة الاستقلالات الوطنية العربية، قد عصفت بها الانقلابات العسكرية. أما الأمر عندنا فإنه يختلف بعض الشيء جراء الاستعمار الاستيطاني الذي سوّى بين الجزائريين في التفقير والتجهيل فقضى على فئة الحضر (نخبة المدن) التي كانت مؤهلة لاستنبات الوعي السياسي ولأداء الحامل الطبيعي للديمقراطية. أما بعد الاستقلال فقد تبنى نظام الحكم الأحادية السياسية متجاهلا تجربة التعددية السياسية التي كانت قائمة قبل ثورة نوفمبر والتي اتحدت في إطار جبهة سياسية موحدة من أجل التحرر من نير الاستعمار فقط. وبموازاة منع التعددية السياسية ميدانيا، فقد استغلت المدرسة من أجل تكريس الفكر الأحادي الذي كانت له تداعيات خطيرة كتغييب الفكر النقدي وإلغاء الفكر الآخر، وترذيل مادة الفلسفة المنشطة للعقل، ومن ثم أقصيت المعرفة وحلت الإيديولوجية محلها، فراج منطق »أعتقد ولا تنتقد« بدل المنطق السليم »انتقد ثم اعتقد« الذي وظّفه ابن باديس في سعيه الإصلاحي لإعادة الإشراقة إلى الإسلام الصحيح. وهكذا أنشئت أجيال عهد الاستقلال على اعتبار كل رأي مخالف للحكام صوتا نشازا يستوجب التخوين وبذلك أرخت ذهنية القطيع سدولها على المجتمع. وعندما هبت رياح التغيير علينا من الداخل والخارج في عقد الثمانينيات من القرن الماضي جاءت استجابة الحكم في شكل قرارات ارتجالية، غير مدروسة هي أقرب إلى رد الفعل منها إلى الفعل، وهذا لافتقار النظام القائم إلى مراكز الدراسات الاستشرافية ولأن الجامعة لم تكن معدة لإشاعة ثقافة الديمقراطية في المجتمع، كما أن أهل الحل والعقد لم يشركوها بعد الانفتاح السياسي المحتشم في أمر توفير شروط النجاح لعملية الخروج من الفكر الأحادي والانتقال إلى الفكر الديمقراطي، لذلك جاءت المادة 40 من دستور 1989 الخاصة بتحرير النشاط السياسي معزولة بدون الروافد الضرورية لها كفتح المجال الإعلامي وتحريره من احتكار السلطة السياسية واحترام استقلالية للمجتمع المدني الذي يفترض أنه يمارس السلطة المضادة وإلغاء عقوبة سجن الصحافيين وتكريس حياد الإدارة ومبدأ فصل السلطات بين المؤسسات السياسية والتمييز بين السلطة الحاكمة والدولة بكيفية تجعل المنتمين إلى الوظيفة العمومية يدركون أنهم في خدمة الدولة وليس في خدمة السلطة السياسية، وكذا تكريس مبدأ التداول على السلطة واحترام خيارات الشعب بتنظيم انتخابات حرة ونظيفة. غير أن شيئا من ذلك لم يتم تحقيقه. لذلك كانت حظوظ الأحزاب الناشئة في النجاح في الدرك الأسفل. والحال أن ارتباك نظام الحكم أمام رياح الديمقراطية قد جعله يتسرع في أمر تبني فكرة التعددية الحزبية إلى درجة أن صار الباب مفتوحا أمام كل من هبّ ودبّ لتأسيس الأحزاب السياسية وبذلك انحرفت الفكرة الطيبة عن مسارها، الأمر الذي أدى إلى تبخيس الديمقراطية وسقوطها في عيون العوام. وهكذا ظهرت أحزاب على أسس دينية وعرقية وجهوية، كان واضحا من البداية أنها ستجهض المشروع الديمقراطي في المهد. ومما زاد طينها بلة أنها أسست حول الزعامات بدل تأسيسها حول الأفكار السياسية. أما الشعارات التي رفعها هؤلاء كمرجعيات فإنها لم تلبث أن فضحها الواقع وظهرت على حقيقتها التي لم تكن أكثر من ذر الرماد في العيون. لذلك عجزت أحزابنا عن بناء طبقة سياسية حقيقية تتنافس على الحكم وتطمح للوصول إلى السلطة وفق رؤاها السياسية. ولا شك أن الجميع يعرف مغبة هذه السياسة الخرقاء التي جاءت في شكل حرب أهلية أهلكت العباد والبلاد وتركت جرحا غائرا بين الإخوة الأعداء، ورغم ما في هذه التجربة المريرة من آلام وأوجاع ومآس ودموع وحزن ودماء، فقد يولد الحل من رحمها، إذا أحسنّا استخلاص الدروس والعبر مثلما أحسن الأوربيون استخلاصها من مأساة الحرب العالمية الثانية، فأنشأوا الإتحاد الأوربي في إطار السلم بعيدا عن هدير الحروب ومآسيها. ولعل أول درس استخلصه النظام القائم من مأساتنا قد تجسد في المادة 74 من دستور 1996 الذي وضع سقفا لمنصب رئيس الجمهورية لا يتعدى عهدتين اثنتين مجموعها عشر سنوات، وكذا مراجعة قانون الأحزاب بما جعله أقل سوءاً من سابقه. غير أن ما يقلقنا أكثر هو تعسّف الحكم المسجل ميدانيا، فمازالت الساحتان السياسية والإعلامية مغلقتين في وجه المبادرات السياسية الناشئة وفي وجه الرأي الآخر. فمازال المجتمع المدني يعاني من المضايقة الشديدة التي تحول دون قيامه بآداء دور السلطة المضادة، كما أن سيف تسليط عقوبة السجن على الصحافيين وتوقيف الصحف مازال مسلطا على رقاب الإعلاميين. كل ذلك يبرر بحجج واهية يمجّها العقل الديمقراطي وتتنافى مع إرادة التغيير. إن ما يجب أن نأخذه في الحسبان أنه إذا كان غلق باب الاجتهاد الفقهي قد أدى إلى ظهور الدروشة الدينية، فإن الاستمرار في خنق الحركية السياسية برفض اعتماد أحزاب سياسية جديدة ومضايقة الموجود منها أدى إلى تكريس الدروشة السياسية التي تشكل لا محالة عقبة كأداء أمام الفكر السياسي والممارسة السياسية الصحيحة. إن الدولة الحديثة التي يحلم بها الجميع مرهونة بتضافر جهود الحكام والأحزاب والمجتمع المدني من جمعيات ونقابات ورابطات ونخب المثقفين، من أجل تكريس الحريات وحقوق الإنسان ونشر ثقافة الديمقراطية في المجتمع، فلا حكم ديمقراطي بدون مجتمع ديمقراطي قوامه التمدن وثقافة الدولة واحترام الآخر في رؤاه السياسية وفي ثقافته ودينه ولغته ونمط معيشته والمشاركة في تحريك المجتمع نحو الأفضل. وفي هذا السياق فإن المنتظر من الحكام أن يميلوا كل الميل نحو الإرادة السياسية تسعى من أجل إحداث نقلة نوعية طموحة في الاتجاه الصحيح نحو دولة المؤسسات. أما الأحزاب السياسية فإن مهمة التحدي تفرض عليها إعادة النظر في طبيعتها السياسية والتنظيمية، بأن يلتف المناضلون حول الأفكار وليس حول الزعيم، ويسند قرار تسييرها لهياكلها بدل الزعيم، تناضل من أجل تحقيق مبدأ التداول على السلطة وليس من أجل اقتسام المغانم مع أهل الحل والعقد. أما المثقف فإن دوره الأساسي يتمثل في ممارسة وظيفة النقد في المجتمع من أجل تحريكه نحو حياة أفضل. كما يجب أن تتضافر جهود الجميع لتصحيح المفاهيم السياسية المشوهة بفعل التنطع والغلو والتطرف. فرغم أن مفهوم الديمقراطية قد ولد من رحم الحضارة الإغريقية، فقد تحرر بمرور السنين من ملابسات ميلاده فتغيرت دلالاته حتى صار يتجسد في منظومة آليات غير مشحونة بعقيدة معينة، تساعد على تجسيد مبادئ الحرية والعدل والحق والتداول على السلطة وفق إرادة المواطنين، وعلى بناء الدولة الحديثة التي تسيرها المؤسسات وليس الأشخاص تخضع للقانون وليس لأهواء الأفراد، يتمتع فيها المواطن بالمواطنة التي تضمن له الحقوق السياسية والاجتماعية وتطالبه بالواجبات المكرسة في وثيقة الدستور التي يقرها بإرادته الحرة، تلك المواطنة التي تحرره من الضغوط الجهوية والعرقية والدينية والمذهبية، وتجعله يدين بالولاء للدولة والوطن فقط. ولا شك أن للمدرسة دورا رائدا في نشر ثقافة الديمقراطية في المجتمع، يستوجب إصلاح البرامج التعليمية من أجل أن تسترجع الفلسفة مكانتها المرموقة باعتبارها ركيزة أساسية لتنشيط العقل وتفعيل الفكر النقدي ونشر التنوير وكذا تدريس الأفكار الديمقراطية الواردة في المؤلفات العربية العديدة ك»طبائع الاستبداد« لعبد الرحمان الكواكبي و»تخليص الإبريز في تلخيص باريس« لرفاعة الطهطاوي وكتاب »أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك« لخير الدين التونسي، وغيرها من المؤلفات. ولعل خير ما أختم به هذه المداخلة المتواضعة، تذكير نفسي وإيّاكم أن من أراد كرامة الإنسان فعليه بالديمقراطية، ومن أراد دولة العدل فعليه بالديمقراطية، ومن أرادهما معا فعليه بالديمقراطية. ملاحظة: ألقيت هذه الكلمة في إطار أشغال مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية تحت إشراف جامعة أوكسفورد.