في هذه اللحظة الفلسطينية، كل شيء يتهيأ إلى ذاكرة التاريخ، قبل نصف قرن تقريبا، كان الوجع منصوبا فوق كل عنق فلسطيني، كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية هي اللحظة الحاسمة، هي اللحظة التي امتشقت أحداثها على حافة المغامرة ومفترق الطريق، كان الحلم الفلسطيني يخرج إلى شوارع المخيمات في صورة قديس وزيتونا وأقواس قزح. كانت لحظة فارقة، تفاصيلها تتوهج بالثورة والاشتعال، تبشر بزمن فلسطيني تتغير فيه اليد المرتعشة من البرد والتشريد إلى زند يحمل المدفع والرشاش والبارود، إنها لحظة إغراء الأرض للدم النقي، لحظة قابلة لتحقيق النصر، والخروج عن نص الهزيمة، والانحياز إلى دائرة الضوء، الهروب من أخدود الملح إلى صحوة التحليق، كانت اللحظة عروسا في وسط مأتم الهزيمة العربية، كانت مقتضى العقل والشجاعة، كان الشرق بحاجة إلى استجماع كرامته التي طحنت تحت اللكنة العبرية الطارئة، كانت اللحظة التي دافعت فيها فلسطين عن أرضها من جديد، وقامت تذكر العالمين بأن مواسم الخصوبة لم تنته، كشفت لنا هذه اللحظة أن الصبح ليس ببعيد، كان الدم يقطر من جسد فلسطين، فكان “الكي بالرصاص" الحل لوقف النزيف. قبل نصف قرن كان بدء اللحظة، كانت شرطا من وعد الله أن هؤلاء المرابطين على أرض الإسراء قائمون وثائرون وحالمون وفي كل إذن للخارجين عن حدود الوطن، كان جبريل يهمس في آذانهم “يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال"، فكان لا بد للحظة أن تولد مقاتلين من نوع فلسطيني بامتياز. كانت اللحظة قبل نصف قرن غير مختلفة عن سياق المراحل التي تلت، كانت رمزا مكثفا من رموز العشق الصوفي بين الإنسان المطرود وبين تراب اعتاد أن يطرح زيتونا وسنابل ونكهات قهوة عربية وفرسانا وحطينا وجالوتا وأجنادينا، كانت اللحظة مهمة لإغلاق حوانيت اليهود المهاجرين الذين يبيعون قوارير الموت للعرب، للذين يصرون أن يغلقوا ذاكرتنا ويعلنونها للبيع في مزاد علني. إنها اللحظة التي دفعت العدو الصهيوني إلى مأزقه التاريخي، اللحظة التي ثقبت سقيفة وعد الرب لإبراهيم، اللحظة التي شقت بعصاها حلم اليهود إلى نصفين وأكثر، أسقطت عليهم احتمالات الغرق في الدم الذي سفكوه، اللحظة التي صرخ فيها فرسان بحد سيوفهم فوق قارعة المستوطنات المدججة بالأسلاك الشائكة والبنادق المختبئة خلف أبراج المراقبة، إنها لحظة التوازن والتهيؤ للانتصار، ورفض السيف المصنوع في عواصم الثلج والعيون الزرقاء. كانت لحظة الجبل وياسر وخليل وصلاح وأحمد وماجد وعبدالفتاح وممدوح وصخر والأطفال والمطر والشمس والأقمار والإشارة الأولى والطلقة الأولى. كانت اللحظة التي توزع المقاتلون فيها على أطراف الوطن، وقرب ساحة الاقتحام، لحظة تجهيز الصواعق، ورسامو خريطة العودة على مواقع قبورهم، إنها اللحظة الفاصلة بين الإكراه في الخروج من الوطن والتحفز لصناعة ميلاد جديد، صدى صفير إلا ر بي جي، ومعركة المشاة والسرايا الطلابية وقناديل يافا وبرقيات أبو عمار على الجهاز اللاسلكي. كانت اللحظة التي مرت فيها أقدام الأشاوس، حيث ينصب الموت فخاخا لا متناهية لأجساد الشباب الميامين، خيول آتية من سهول برج بن عامر. إنها لحظة الرصاصة التي امتدت حتى لحظة الحجر إلى أن تمكن هؤلاء الذين كتب لهم أن يرحلوا، فإذا بهم يعودون من كل فج عميق. إلى هنا.. إلى فلسطين.