يأتي التفكيك لرفع تلك الحواجز والعقبات العالية المعرقلة، التي تقف وجها لوجه في طريق الذوق إلى النص، وتجنبا لما تُبَذرُه -المرتفعات والحفر المنصوبة، من قبل المؤسسات السلطوية- من استرسال الدلالات، ثم لمحاولة اتقاء حزمة منهكة جدا من الميكانزمات الحازمة، التي تضعها الكثير من الإجراءات المنهجية القرائية وقبل وجود النص حتى، إنها إجراءات يخمن التفكيك أحيانا في أنها تعسفية، ترمي إلى إعادة برمجة المتلقي، ولكن من أجل ماذا؟ ربما بغية الحياد عن فطرة الفهم الأولى، شرودا نحو الرغبة الجارفة في احتكار النص لأغراض أكثر من نقدية، لا يهمها لا تاريخ النص ولا مستقبله. إنها إجراءات تزعم فيما تزعمه أنها استطاعت نتيجة اجتهادات ومكابدات وتقريبات ودراسات حثيثة، أن تصل إلى تحديد دعائم النص الكُلية، -وهذا ادعاء ليس إلا- وإلى فهم العملية القرائية، كل ذلك استنادا على ترجيحات قد يرجع أغلبها إلى الركون إلى ذلك الإيمان العقائدي الديني الراسخ، المتذبذب كذلك ربما، لإنجاز مقاربات إجرائية همها الأول فيما يبدو الوصول إلى قناعة، ولو مؤقتة، تظهر وكأنها مرتبطة بما هو “غير نصي" لأجل اقتحام النص، والسطو عليه، وعلى المكانة الفهمية. فهل التفكيك حقا هو دعوة إلى العودة إلى بدائية التلقي، أم أنه زعم بمرافقة هذه البدائية القرائية لجوهر التلقي الإنساني؟ وماذا عن إجراءات غير التفكيك قبالة النص والعلامة؟ وما سر هذا التكبيل الممنهج لأي مبادرة لا تبدي ولاءها التام والمطلق لسلطة النقد ذات المرجعيات المشكوك فيها، إنها ترغم القارئ على الانتماء إلى جمهوريتها المستقلة عن حدود جمهورية النص والقارئ معا؟ وكأن أمر القراءة الأولى الغريزية، يكاد يكون في مركز هامش اهتمامات إجراءات الكثير من هذه المناهج النقدية غير التفكيكية، ما يخصها فقط هو الكتابة “النقد المكتوب"، وقراءة هذه الكتابة، بعيدا عن الفهم الجماهيري، الذي وإن كمم ولو طويلا، فإنه سينفجر ذات حرية قرائية. يأتي التفكيك هنا وفي هذا الصدد، لتلقف القراءة الأولى وحمايتها من أدوات المسخ، إن القراءة الأولى والتي وإن كانت ملوثة بالكثير من “الغيرية" الصادمة للذاتية، فإنها كفيلة أكثر من غيرها، بتشريح القارئ وتقريبه، القارئ الذي يحاول التفكيك أن يماهيه مع الكاتب الناقد. التفكيك إذن، هو صبٌّ للقراءة الأولى في معين الكتابة، من دون المرور على رقيب أو مُحَوّل، تكون مهمته تحوير القراءة المتادعية الأولى التي تعني القارئ أكثر مما تعني غيره، وجعلها ذات مواصفات وهويات نقدية إجرائية احتكارية. إنه تضليل لمسار القارئ والقراءة، والتواءات مقصودة تحجر على حق القارئ، لتتيح الحق الشرعي للفهم، لفئة دون غيرها، وكأن وظيفة الفهم المتعلق بالجمال، إنما هي وظيقة حصرية يمارسها غير القارئ، بالنيابة عنه. إن الصمت هنا إزاء الدلالة، لصبغها بهوية الواحد الإيديولوجي البراغماتي، كان وسيبقى هواية أنانية الغطرسة النقدية، وسلطة مغرية تمسك ديكتاتورية الفهم بزمامها وبمقدراتها. هنا يأتي التفكيك كمخلص، استعجالي ربما، وسريع جدا كذلك، ولكن من أجل ممارسة ديمقراطية الفهم، الواقعة، فالتفكيك لا يشترط صفات مسبقة على القارئ، ولا ينتهج أي بيروقراطية قرائية، إنه مهماز، يحض على المبادرة للفهم، ويقدم إذ ذاك بدائل مبذولة، سهلة، اقتصادية، في متناول القارئ، أسمها آلات لا آليات، لا تحتاج إلى قراءة دفتر غامض لتشغيلها ولا إلى إجراء تربص قرائي. ولكن ومع كل رواسب هذه العصور القرائية النقدية الطويلة التي أثرت حتى على جوهر تلقائية القراءة، وعلى آلة البدائية القرائية عند المتلقي، فهل يضمن التفكيك الحد الأدنى من سلامة سالكه؟ في هذا الخصوص، يخاطب التفكيكُ العقل القرائي، لإقناعه بجدوى التداعي الذي يتأسس على جملة من الدعائم التي تُفعِّلُه، إنها تلك المكاشفات التي يجعلها التفكيك عرضة للعملية القرائية، أقصد تلك الحجج الوجودية التي تتعقب القارئ المنتبه الترصد لقوانين الحدث الوجودي، الذي يمكن من فهم الحدث النصي الدلالي، ليبرهن على وجودية النص، وعلى تعلق جوهره اللصيق بتلك العلاقات الوجودية عموما، هكذا يقدم التفكيك حججه للقارئ، خارج النص ربما أولا، ثم داخل النص بعد ذلك، إنه يدعو القارئ إلى مراقبة ما يحيط به في كينونته، في تلك الميكانزمات التي تحرك العملية الوجودية، هناك حيث تعجز الكثير من المناهج على مضاهاة هذا المنطق التدليلي على سلامة المنهج ومنطقيته، والتي تستند على عقائد ميتافيزيقية خارج مادية. *جامعة تيزي وزو.