كلُّ هذه القوانين لنا، وكلّ هذه القيود، كلّ هذه الحواجز والاحترازات، كلّ هذه الجدران، كلّ هذا الليل، وكلّ هؤلاء الحراس الذين يعسّون تخومَ الفضاء كي لا تتسربَ حريتُنا من أيِّ ثقبٍ أسود، وكلُّ هذا الضجيج في العالم لكي لا ينفذَ صوتُنا إلى آذان النجوم، وكلّ هذه السواتر لكي تمنعَ صورتَنا عن بؤبؤ الضمير، أرمادا تذرُّ سواداً في حواسّ الجهات وفي جهات الوعي، تطهيرٌ كاملٌ للبصيرة لا يشبهه إلا التطهيرُ العرقيّ الكامل المشتهَى للجنس الفلسطيني، كما يقول إيلان بايي،التطهير العرقي معادلٌ للإعدام الكامل، ومعادلٌ للنفي الشامل، ومعادلٌ للأسر النهائي، لا فرق بين المترادفات إلا في سياق توظيفها ومناسبة استخدامها في المنظومة قيد الانشغال، وقد كان شغلهم الشاغل منذ عقودٍ إن لم يكن منذ قرون هو كيف يُعدموننا أو كيف يَنفوننا أو كيف يأسِروننا، ليس فقط كأجساد، بل ككيانٍ شامل تاريخي حضاري قِيميٍّ قوميٍّ روحيٍّ اجتماعيٍّ جغرافي حيوي، وقد كانت مهمتهم صعبة، بسبب توقد الحالة الفلسطينية وانغراسها في الخليقة من جوهر الأرض إلى جوهر السماء، وبداهة إحساسها بقوتها وتعاليها عن الظواهر العابرة، الأمر الذي جعلها تستقبل المارين والغادين والرائحين كما تستقبل سفنها وتشرف من رملها على البحر والكرمل والغور والحكماء والأباطرة، تدرك بحسها الملحيّ انصهارَهم وذواءهم عن ساحل روحها وكاحل أحلامها، ينامون ملء جفونهم وهم العماليق في جلدهم وحكمتهم وصبرهم، وقد نشأوا من أديمها فتسمّت الأرض بأديمهم وكانت كنعان، قرون من التربّص والعمل الدؤوب والمحاولات والصفقات والابتزازات والالتفافات والتحالفات، فقط لأسر بداهة شعب، قرونٌ بأكملها تذهب هباء، حيث البداهة هي أوّلية الأشياء التي لا يمكن سلبها أو أسرها، لأنها الشيء الذي لا يمكن تغييرُه، هكذا هو تعريفه، المُعطَى الأوّل، وما يجري إذن هو محاولات كسر البداهة ووضعها في قيود، هو تعذيبٌ لها، لهذا الذي لا ينكسر ولا يتغير، ولو أمضَوا قروناً يحاولون، وهذا هو المبرّرُ الكامل لكلّ هذا العسف، الذي لن يجدي ولكلِّ هذا الانقضاض الشامل وكل هذا السلاح الذي يكدّسون لمواجهة ذلك الشيء البسيط، كامل البساطة وكامل الأولية، إلى درجة استحالة تفتيته أو تغييره، وهذا أيضاً هو الشاهد الكامل على عمى البصيرة الذي يُنجب عنادَ السنن والقوانين التي تحكم حنى ذواتنا، ويدفع لمزيدٍ من التمادي في المحاولة والعسف إلى درجة التفرّدِ والغرابة والاستهجان والتناقض في التاريخ، ويصل الأمرُ بالكيان إلى درجة اختراع شعب واختراع أرض واختراع نصوص واختراع تاريخ واختراع آثار، مقابل أسر كلِّ ما يعادلها في فلسطين والفلسطينيين، حتى ليصل الأمرُ بهم إلى الجنون، ويصعدون إلى هيستيريا حين يعلنون بصوتٍ عالٍ أنهم هنا لم ينقطعوا من آلاف السنين، في ومضةٍ كاشفةٍ للهلوسات التي يتخيلونها، والتي تشي بالعالم الجديد الذي يريدون أن يخلقوه لكي يصدقهم ويثملُ حتى النخاع لكي يعيش الوهم، ويبرر لهم كلَّ نزقهم حتى وهو يمنع تواصل الأزواج الفلسطينيين عبر ذات الجدران التي بناها ليمنع تسلل الحب والغريزة الأولى، والحنين الأول، والنبضة الأولية في الجسد والنبضة الأولى في الإسراء واليقين والنبضة الأولى في السلام، والتكوين الأوّل في الحرية، هو ليس يوماً عالميّاً واحداً للأسير، إنها كلُّ الأيام، ولكنَّ الأهمّ أنه الكيان العالميُّ للأسر، والجريمة والبهتان.