لم يعد مقبولا اعتقاد البعض أن قصيري القامة معاقون جسديا أو عاجزون عن أداء بعض الأعمال، لعدم امتلاكهم البنيات الجسدية الكاملة، بعد أن كسر الكثير منهم حواجز الشعور بالنقص، وتمكنت أغلبيتهم من إبراز مواهب فذة في مختلف المجالات الأدبية والعلمية والسياسية والفنية، والتاريخ يؤكد أن "كل قصير عظيم".. أو بالأحرى أن أغلب العظماء كانوا من قصار القامة، سواء من الزعماء أو القادة العسكريين أو الأدباء والمفكرين ومشاهير الفن والرياضة. وعبر هذه السطور.. نروي حكايات عدد من هؤلاء ومسيرة صعودهم، وكيف أصبحوا عظماء وإن اختلف البعض حولهم.. فتابعونا حلقة بعد أخرى. سيبقى سليم الأول بن بايزيد خان أول سلطان عثماني، في التاريخ، بل وأول حاكم غير عربي ينتحل لقب أمير المؤمنين ويخطب له على منابر الحرمين الشريفين بوصفه خليفة للمسلمين، وقد عرف لدى البريطانيين بالعبوس لأنه نادرا ما شوهد مبتسما بينما تعرفه المصادر الفرنسية باسم سليم الرهيب. ولد سليم لوالده السلطان بايزيد وأمه عائشة كلبهار خاتون بمدينة أماسيا في 10 أكتوبر عام 1470، وما إن بلغ الحادية عشرة من العمر حتى كان السلطان قد عينه واليا على طرابزون في إطار سياسته الرامية لتوزيع أولاده الثلاثة الذكور في مناطق بعيدة عن بعضها البعض خوفا من اصطدامهم بسبب اختلاف طبائعهم. فكان محبا للعلوم والآداب والفنون وتحفل مجالسه بالعلماء، ولذا كان الجيش يكرهه لعدم ميله للحرب بينما كان أحمد محبوبا من الأعيان والأمراء ومؤيدا من قبل الصدر الأعظم علي باشا أما سليم فكان ناري الطباع محبا للحرب ومن ثم تمتع بمحبة الجيش وخاصة الفرق الانكشارية التي كانت تحصد الغنائم في الحروب. ولكن إجراءات بايزيد لم تفلح في تجنب الصراع بين أبنائه وما إن أعلن أن ابنه أحمد سيصبح سلطانا من بعده حتى ثار سليم وكركود ثورة عارمة ولم يتمكن بايزيد من قمعهما إلا بعد حروب طاحنة انتهت بتشتيت جيوش الابنين. ولم يتمكن بايزيد من تجنب مصيره المحتوم بقراره العفو عن ابنه سليم إذ أن الانكشارية أتوا به إلى اسطنبول مظهرين الاحتفال بعودته وساروا به إلى سراي الملك وطلبوا منه التنازل لسليم عن العرش فقبل مرغما تحت تهديد القوة العسكرية وتنحى عن العرش في "25 أبريل 1512 م« وتولى سليم الحكم رسميا بعدها بأسبوع. شرع سليم في تحقيق حلمه بتوحيد العالم الإسلامي تحت حكمه فحارب دولة المماليك بمصر والشام وهزم قانصوه الغوري في معركة مرج دابق قرب حلب، ثم طومان باي في الريدانية، وأعلن نفسه خليفة للمسلمين وتلقب بأمير المؤمنين ومع دخول بلاد الحجاز في طاعته كوريث لعرش المماليك منح سليم الأول نفسه اللقب الأشهر "خادم الحرمين الشريفين". وهكذا صار سليم الأول بن بايزيد أول خليفة للمسلمين من الترك ولما رأى نفسه متملكا لأغلب أراضي المسلمين أو بالأحرى لوسط العالم القديم بقاراته الثلاث أوروبا وآسيا وإفريقيا صار يلقب بسلطان البرين "الآسياوي والأوروبي" وخاقان البحرين "الأبيض والأسود"، وهو تواضع جم من السلطان الذي كانت الأراضي الخاضعة له تمتد لقارة إفريقيا بعد دخوله مصر وصولا إلى الجزائر وتشمل بالتبعية البحر الأحمر. وطبقا لروايات من عاصروا سليم فقد كان رجلا قصير القامة رشيق الحركة حليق اللحية مكتفيا بشارب ضخم وهو ما نشاهده جليا في صورته بأول سلطنته. أما صفاته الشخصية فكانت ملحمية بامتياز تجمع بين المتناقضات بكل بساطة. فقد كان عصبي المزاج سريع الغضب وإذا ما غضب بادر بسفك الدماء ولم يؤثر عنه استعماله الرأفة أو العفو عن أعدائه حتى لو وعد بذلك، وقد قتل عددا من قادته العسكريين لأول بادرة اعتراض على أوامره كما قتل سبعة من وزرائه لأسباب واهية حتى أن الوزراء كانوا مهددين بالقتل دائما وصار الأتراك يتندرون على من يرومون موته بالدعاء له أن يصير وزيرا لسليم. ورغم تلك القسوة لم يكن سليم خلوا من المزايا الحسنة فقد كان محاربا من طراز رفيع ورجل دولة حاد الذكاء يدبر أمور دولته بنفسه بكل الحزم والصرامة. كما كان محبا للأدب والشعر يصطحب معه المؤرخين والشعراء ليخلدوا انتصاراته الحربية ومن الطريف أن سليم كان شاعرا متميزا يتقن اللغات التركية والفارسية والعربية وينظم الشعر بها تحت اسم مستعار هو "مهلس سليمي"، وقد نقل الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني ديوانه من الشعر الفارسي إلى برلين عام 1904. وقد مات سليم متأثرا بمرض عضال في عام 926 ه وهو في بعض حروبه واختلفت الأقوال في ذلك فمن قائل إنه مرض الجمرة الخبيثة أو سرطان الجلد، بل هناك من أشاع أن طبيبه الخاص دس له السم. وتوضح الصور المعروفة لسليم الأول ملامحه الحادة وشاربه الطويل المميز ونظرات عيونه المتوثبة للانتقام سواء في تلك الصور الرسمية التي رسمها فنانون من الأتراك أو في تلك التي رسمها له الرسام الفرنسي دو شتان. يروى أن أحد وزراء سليم الأول طلب منه مازحاً أن يخبره مقدماً بتاريخ إعدامه، حتى يرتب أموره، فرد عليه السلطان بالقول إنه في الواقع كان يفكر لفترة من الوقت في إعدامه إلا أنه لم يجد بعد بديلا مناسبا له ووعده بأن يخبره فور الحصول على شخص يقوم مكانه في الوزارة.