يا معلمي العظيم.. كم اشتقت إليك ومن الأعماق.. لا أدري إن كنت في الجزائر أو خارجها، أو كنت على قيد الحياة أو تغمدك الله برحمته... لم أرك منذ نهاية السبعينيات عندما عشت أنت محنتك التي زعزعت حياتك وكادت أن تقلبها رأسا على عقب.. لأبدأ من البداية، لقد درست أنت في جامع القرويين، كان ذلك في الخمسينيات عندما انتقلت من مسقط رأسك إلى وجدة ليستقر بك المقام في جامع القرويين، ومع الإستقلال عدت إلى الجزائر وارتقيت من معلم في الإبتدائي إلى المتوسط.. أذكر أنك كنت تأتي كل أسبوع بالشعب الثقافي إلى القسم وتحثنا على مناقشة القضايا التي يطرحها، وأذكر أنك سألتنا عن موقفنا من بنت تصبح حاملا من صديقها في حملة التطوع آنذاك التي كان ينظمها الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وحزب جبهة التحرير تحت رعاية الرئيس هواري بومدين وحلفائه من اليساريين، فانتفضنا وصرخنا، حرام حرام، فابتسمت تلك الابتسامة الهادئة وقلت لنا بنبرة لم نكن نتوقعها منك، اعتبروا المسألة طبيعية، لأنه حتى في الثورة حدثت مثل هذه الأشياء، وهي أشياء ذات طابع إنساني، الإنسان خطاء... لكن ما يهم في القضية أن الثورة الزراعية تساهم في تقريب حياة المثقفين والطلبة من حياة الريف وتساعدهم على فهم شعبهم... هذا هو الأهم... قلت لنا ذلك.. وأتذكر أشياء أخرى عملت عملها فينا وغيرت كثيرا من نظرتنا إلى الحياة، ومنها أنك كنت تشجعنا على توجيه النقد حتى وإن كان هذا النقد يطول طريقتك في التعليم أو أفكارك التي تعرضها علينا... كنت تقول لنا، لا يوجد شيء مقدس لا يناقش، كل الأمور لابد من مناقشتها وإبداء الرأي فيها.. علمتنا أيضا كيف نسجل يومياتنا ونسجل كل ما يجول في أذهاننا وأفكارنا ضمن كراسة صغيرة أو كناشة، واستمرت هذه العادة التي أخذتها عليك معي طول حياتي أيها المعلم القاضي لحمر.. تألمت عندما علمت أن زوجتك التي كانت من أصول مغربية أو جنسية مغربية قد تخلت عنك على إثر تلك الأحداث المحزنة التي حدثت بين البلدين الشقيقين عام 1975، وأخذت معها الأولاد، وتركوك وحيدا.. بل اكتشفت ذلك عندما رجعت ذات مساء إلى البيت، فوجدت تلك الرسالة التي كادت أن تقضي عليك... لكنك تحملت الوضع بصبر لا مثيل له، وعندئذ تأكدت أن المثل التي كنت تسعى لتعليمنا إياها لم تكن مجرد كلام بل كانت تجسيدا عمليا في حياتك... وعندما دخلت أنا الجامعة، التقيت بك عدة مرات وشجعتني على مواصلة الدراسة لأكون باحثة كبيرة، وعلمت منك أنك تزوجت من جديد، ورحت تزور العائلة التي هربت إلى المغرب من حين إلى آخر... بل وجدتك مرة سعيدا وقلت لي أن ابنك أصبح طالبا ببروكسل، وابنتك بألمانيا، على يدك قرأت وتذوقت عباس محمود العقاد، مفدي زكرياء، طه حسين، المازني، مصطفى الرافعي وزكي نجيب محمود والمتنبي وابن الرومي وغيرهم... والآن إنني لأشعر بالأسى عندما التفت إلى المدينة وأجدها خالية من رجال مثلك، يقدسون العلم ويغرسون في الناشئة قيم الجمال والمعرفة والمحبة.. مع كل الحب والعرفان تلميذتك نون الباز