العواصم لا تحفل بالذاكرة غالبا، فهي تعمل وفق ذاكرات مؤقتة.. ولها زمنها الخاص.. توقيتها المختلف عن تلك المدن والقرى العميقة التي تدرب ذاكرة أبنائها كل صباح.. كل شيء في العواصم يخضع لقانون "الزمن الراهن"، حيث يتحول الوقت إلى "بورصة تجارية" لكل جزء من الثانية فيه منطق مختلف وملتبس العوالم. حيث لا جدوى من التشبث بخزائن الذاكرة أو المباهاة بها كثيرا.. هذا ما يمكن استشفافه من "ثقوب زرقاء" للروائي الخير شوار، أين تمضي الأجواء في عوالم تخلط بين "ذاكرة المكان" - المحدد سلفا - بقصر مهجور في ضواحي العاصمة، تسكنه أشباح وتدور حوله الكثير من أساطير العالم السفلي، وعالم "اللاذاكرة"، حيث تسقط ذاكرة بطل الرواية، في وحلٍ ما، يبدو تارة ثقبا لولبيا في جثة، وتارة أخرى ندبا في وجه البطل يتمدد بأذرع افتراضية ليلتهم كل ما حوله! رواية "الخير" هذه المرة تأتي لتحيل عوالم المدينة إلى أطلال يصطدم فيها المركز بالهامش.. ويصنع فجيعة مستحقة، يستدعي بذكاء وبتلميح مختزل ولغة مكثفة المعنى، سنوات الجمر عبر مشاهد الرؤوس المقطوعة التي يتعثر بها تلاميذ المدارس، إلى الرؤوس التي تنفجر في وجه القارئ الذي حتما سيتحسس رأسه ألف مرة وهو يصول بين فصول هذه الرواية الملغومة العصية على التصنيف. «شوار" الذي نزل ضيفا على "الأثر"، لا ينكر أنه حاول في "ثقوب زرقاء" - التي استنفذت ست سنوات من عمر الكتابة - أن ينحو قليلا من عوالمه السابقة المعتمدة على الذاكرة الشعبية والأساطير كما في "حروف الضباب"، لكنه تفاجأ بآراء بعض الزملاء ممن التقط "وحدة البنية" بين الإصدارين! حيث يبدو أن البناء على عوالم "اللاذاكرة" يستدعي بالضرورة نقيضه بشكل ما. إن تغييب الذاكرة ما هو إلا تأكيد بصورة أخرى على حضورها الطاغي، أو محاولة تلمس تداعيات غيابها وما يتركه من أثر في النفس وثقوب في الضمير الفردي والجماعي. الرواية الصادرة من "دار العين" بالقاهرة، التي ستكون حاضرة في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر. تؤرخ لفعل التداعي.. تداعي الذاكرة.. تداعي القيم.. تداعي المنطق.. الخ، حيث تغرق العوالم في الغيبيات حينا وفي أحلام اليقظة حينا آخر.. دون إفراط في العبثية ودون محاذاة للواقع بحرفيته المتخيلة. «ثقوب زرقاء" عمل يستحق القراءة والاهتمام النقدي لروائي يغيب طويلا ليأتي بغنائم مستحقة.