خدعت ملك البربر يابون بخدعة جلد الثور وأسست لإمبراطورية جعلت منها أشهر امرأة تولّت الحكم في التاريخ. تعتبر أليسار مؤسسة قرطاجة إحدى أكثر الشخصيات النسائية نفوذا وشهرة وإثارة للجدل على مدى التاريخ. وبعد مضي نحو 29 قرنا على رحيلها لا تزال محط اهتمام المؤرخين الذين يجدون في شخصيتها وسحرها وحكمتها وذكائها وقوتها وقيادتها، مكونات لم تتوافر إلا نادرا في امرأة منذ فجر البشرية. منذ طفولتها لمس والدها ملك صور ذكاءها الشديد وأوصى لها بالحكم بالمشاركة مع أخيها بغماليون، كانت أليسار زوجة زيكار بعل كبير كهنة معبد ملقارت وصاحب الثروة الضخمة كونه المؤتمن على ما يقدم للمعبد من عطايا وقرابين. زادت ضغوط المجتمع على أخيها بغماليون لحسم مسألة الحكم، لكنه كان يعلم بنفوذ أخته فراح يخطط بهدوء لعزلها والاستئثار بالسلطة. بدأ المخطط بدخول بغماليون معبد ملقارت وقتله زوج أليسار سرا وإخفاء آثار الجريمة عنها. تقول الأسطورة إن زيكاربعل ظهر على أليسار بالحلم وأخبرها بالحقيقة وأرشدها إلى صناديق ملأى بالذهب دفنها في التراب، وطلب منها أن تترك مدينتها الأم لأنها التالية على قائمة القتل، ولكن المؤرخين لا يعتدون بهذه الرواية، ويشيرون إلى أن أليسار استشفت وجود مؤامرة من الوقائع والأجواء حولها. علمت أليسار أنه لم يعد من مكان لها في صور، فماذا تفعل وهي الأميرة الطموحة التي لا تحد طموحها حدود؟ تقربت من شقيقها وأوهمته بأنها مقتنعة ببراءته من دم زوجها وراحت تخطط لمستقبلها. جمعت النفائس والكنوز التي ورثتها عن زيكاربعل، وقالت لبغماليون إنها تريد السفر في رحلة إلى البلدان التي كان الفينيقيون يقصدونها في تجارتهم بأعالي البحار بدلا من البقاء طوال الوقت في قصرها، ووجد الأخ في رغبة أخته فرصة لتخلو له الساحة فزودها بما أرادته من سفن. حرصت أليسار على أن يرتب لسفرها أقرب المقربين منها وأفراد حاشيتها الذين تولوا نقل صناديق الكنوز على متن السفن وانطلقوا معها، المحطة الأولى كانت قبرص التي رسوا على شواطئها ونظموا فيها أمورهم، ومنها انطلقوا باتجاه شواطئ شمال إفريقيا، حيث تعيش شعوب من البربر، زعيمهم الملك "يابون هارياس" بحسب ما ينقله المؤرخ الروماني يوليوس سولنيوس. وصلت أليسار ومجموعتها إلى شاطئ تونس وتحديدا قرب مدينة عتيقة التي كان العديد من التجار الصوريين يستوطنون فيها، وأوفدت مبعوثا إلى يابون تطلب منحها قطعة أرض بمساحة جلد الثور على شكل نصف دائرة، فوافق. أبدى بعض المقربين من يابون استياءهم من الصوريين القادمين وتوجسوا من وجودهم ولكن ملكهم كان يتطلع للاستفادة منهم ومن الثروات التي يحملونها ويأمل في نقل حضارة صور إلى شعبه. روايات كثيرة تنسج حول ما جرى لاحقا، فبعض المؤرخين يقول إن يابون بعدما منح أليسار الأرض باشرت ببنائها وبعد فترة قصيرة زارها وذهل بما شاهده وطلب كمقابل الزواج من أليسار التي أبدت موافقة بشرط أن يتم الزفاف بعد 3 أشهر من استكمال بناء مدينتها ومقر إقامتها. أعطت أليسار الأوامر لرجالها بتحويل جلد الثور إلى خيوط رفيعة جدا تمتد لمسافة طويلة ثم لفها حول قطعة أرض ساحلية لتحيط بأكبر مساحة ممكنة، وذهل يابون بذكائها خاصة أن النظريات العلمية تثبت بهذه الحالة أن نصف الدائرة التي يشكل الساحل قطرها لجهة الشمال وفر للفينيقيين القادمين مساحة أكبر مما لو كانوا استخدموا خيوط جلد الثور في مساحة مربعة أو مستطيلة أو مثلثة. ويُنقل أن أليسار بعدما ضمنت عدم نكوص يابون بوعده دخلت إلى هيكل شيدته على اسم زوجها الأول وطعنت نفسها من باب الوفاء له. على أية حال تحليل الأمور تاريخيا وبحوث بعض المؤرخين تؤكد أن الحصول على تلك الأرض كان مقابل إيجار دفعته أليسار من الذهب والكنوز التي كانت تحملها، وظل أبناء قرطاجة من بعدها لقرنين من الزمن يسددون الإيجار قبل أن تبسط إمبراطورية قرطاجة نفوذها على مساحات واسعة من شمال إفريقيا وحوض البحر المتوسط وتساهم ببناء 200 مدينة ومستوطنة تابعة لقرطاجة. أصل كلمة "قرطاجة" قرية "حدشت" واختلف المؤرخون أيضا في تفسير معناها، فبعضهم يقول إنها تعني "المدينة الجديدة" والبعض الآخر يقول إنها تعني "العاصمة الجديدة" لأن أليسار كانت فعلا تتطلع إلى بناء دولة جديدة تنافس صور وتحقق طموحاتها الواسعة وآمالها وكان لها ما أرادت. تميزت قرطاجة في البداية بهندسة خلابة سابقة لعصرها، عنوانها الحضارة والحياة الباذخة، نتيجة للتجارة والمعادن المستخرجة من إفريقيا وإسبانيا، وبنى القرطاجيون مرفأين على سواحل المدينة وعززوها بقلعة للحماية، وينقل أن عدد شعب المدينة ارتفع بعد 6 قرون من تأسيسها إلى 700 ألف، وهو عدد ضخم جدا. ومع بدء الغزوات الآشورية لسواحل فينيقيا وتحديدا صيدا وصور وطرابلس لجأ الكثير من سكان هذه المدن إلى قرطاجة وكذلك فعلوا في القرن السادس عندما اجتاحتهم جيوش نبوخذ نصر البابلية، وفي القرن الرابع قبل الميلاد عندما أخضع الاسكندر المقدوني صور بعد حصار طويل. بعكس المدن الفينيقية على السواحل الشرقية للمتوسط، صمدت قرطاجة بقوة بوجه اليونانيين ومن بعدهم الرومان، ولم تتعرض لتهديد حقيقي إلا مع بداية الحروب البونية وتحديدا الحرب الأولى 263 - 241 ق.م. والتي احتل الرومان خلالها جزيرة صقلية. ثم انهارت في الحرب البونية الثانية وزالت عن الوجود في الثالثة عام 146 ق.م. وحتى اللحظة الأخيرة ظل القرطاجيون أوفياء لجدتهم أليسار التي بنوا لها معبدا خاصا واستمروا يتناقلون القصص حول حياتها المثيرة.