يعترف الروائي يوسف القعيد بالندم، لأنه لم يفضح هذا ''الجزائري'' النكار للخير، ولدور مصر في تحريره من الاستعمار بعد عودته من زيارته التي كان يريدها سعيدة إلى الجزائر، فكانت نهاية حزينة، وربما مأساوية ومؤلمة بالنسبة لإحساسه المصدوم·· لكن في أية لحظة لم يأل كاتبنا أي جهد للتعرف على حقيقة هذه الثورة، وعلى تاريخ هذا الشعب وثقافته وهو يزور بلد ''المليون شهيد'' لأول مرة في حياته·· لم يكن يهمه الاقتراب من المعركة الحقيقية التي خاضها الجزائريون من أجل استرجاع سيادتهم، ليس على الأرض وحسب، بل على المكونات الحقيقية للشخصية الجزائرية، والتي تعتبر عملية الانتماء إلى العروبة، واللغة الموحدة، والشعور الديني الإسلامي، جوهرها ومحركها الأساسي·· لم يأل أي جهد لأن يفهم أن معركة الجزائريين ضد الكولونيالية الفرنسية لم تكن، وهذا منذ المقاومة الأولى التي خاضها الأمير عبد القادر الجزائري، فقط دفاعا عن الأرض·· بل كانت دفاعا عن عقيدة وثقافة وهوية حضارية، بل وعن مسألة أن نكون أو لا نكون··· لم يكن يوسف القعيد في رحلته مهيأ لاكتشاف هذا الجزء الحيوي والعضوي من الجسد العربي العام، بل كان همه أن يكتشف ظلا لمصر لم تعد على أرض الواقع موجودة كقوة رائدة، عن نسخة باهتة للأنا المصرية المضخمة عبر الأساطير الجديدة المؤسسة عن الذات المصرية دفاعا عن نفسها، وتعويضا عن ما كانت تمنى به من هزائم وإحباطات ناتجة عن سياساتها التي وصلت إلى حدودها القصوى·· بعد رحلة الخيبة، يصل القعيد إلى نتيجة مفادها، ''أن صورة مصر في العقل الجمعي العربي في حاجة إلى إعادة دراسة''، وهنا، يتخطى لحظة الخيبة من الحالة الجزائرية إلى مستوى أوسع وأشمل، وهو من الخيبة من الحالة العربية··· فليس الجزائري وحده الذي تنكر لدور مصر وصدارتها وأصبح يشكل تحديا لها، بل العرب كلهم··· وهنا تظهر بجلاء هذه العلاقة الغامضة والمشوشة والمرتبكة التي تصل في أحيان كثيرة إلى نوع من الصدمة والعنف القائمين بين الشقيقة ''الكبرى'' كما يصفها المصريون والشقيقات الأخريات··· إن العقل المصري يريد لنفسه أن يكون مرادفا للمطلق، وأن يكون فوق حركة التاريخ والواقع، وهنا تكمن أزمته البنيوية ومأزقه التاريخي، ويتجلى عجزه في تجاوز نفسه كخرافة ترفض قدرها كمواجهة مع الذات والآخر·· وكمواجهة مع الماضي وحمولة الحاضر··· لكن هذه الوضعية المرعبة التي آل إليها العقل المصري، لا تعكس فقط صراعه الدامي مع الآخر، بل صراعه العنيف والمر ضد شقه الآخر·· الشق المحاصر الذي يرفض السقوط في حالة العمى وعملية الإعماء والانخراط الأهوج في لعبة إعادة إنتاج الوهم الفردي والجماعي··· إن عدم قبول فكرة التأهل إلى المونديال، على يد فريق ''شقيقة صغرى'' هو الذي أخرج وبهذه البلاغة المثيرة، العقل المصري من دائرته الباطنية، أخرجه إلى العيان بكل هذا العنف والاندفاع، أخرجه بكل لا عقلانيته المتغلغلة في أعماقه وهذيانه المتدفق، وبالتالي أزال عنه كل ما كان ينوء به كاهله من كل تلك اللغات المخادعة والمتسترة ببلاغات زائفة ومزيفة، وهذا بدوره لا يمكن أن ننظر إليه من زاوية سلبية، لكن علينا التعاطي معه بشكل إيجابي، كونه وفر لنا شكلا من أشكال الاقتصاد السياسي للدفع بالعقل العربي إلى منطق مغاير وأكثر اقترابا من الحقيقة التي علينا نفض الغبار عنها وجلبها من تحت الطبقات السميكة والمتراكم ثراها··· يتساءل القعيد ''مالذي أوصل جزائر المليون شهيد لأن تصبح ضد مصر بكل هذا العداء والعدوانية؟ وكيف تعامل الجزائري مع المصري على أنه عدو؟'' هكذا، ودفعة واحدة، يسقط قناع العقل وقناع ''الشقيق الأكبر'' بشكل درامي ومبتذل·· يجعل من مناوشات أثارتها مباراة في كرة القدم بين فريقي الجزائر ومصر، ''عداء وعدوانية'' ضد ''مصر'' من طرف ''بلد المليون شهيد''، ويجعل من ''الجزائري'' يذهب إلى حد التعامل مع ''المصري'' على أنه ''عدو''··! كيف نفسر مثل هذا الخطاب؟! أولا، لنعد إلى وقائع المباراة الفاصلة التي جمعت بين فريقي مصر والجزائر ونحاول تلخيصها في النقاط التالية : في عام 1989ودائما في إطار تصفيات المونديال تفوقت مصر في ملعبها على الجزائر، وبالتالي تأهلت إلى المونديال عام 1990 على حساب الجزائر··· تولد ثأر بين الفريقين·· وكانت كل لحظة لقاء بينهما تجدد هذا الثأر الكروي وعلى أساسه كان يشحن وجدان جمهور كلا الفريقين··· لكن بالرغم من كل المشاحنات والاستعراضات للقوة الرمزية، لم يتجاوز ذلك حدود الملعب ومدرجات الجمهور وفضاءات الإعلام الرياضي··· تميزت لحظة الحسم بسوسبانس كبير، تم على مرحلتين، الأولى في مصر بحيث تفوق فريق مصر على فريق الجزائر بهدفين لصفر، وبالتالي رجح الفريق الجزائري الكفة لصالحه وأنهى أمل مصر في التأهل إلى المونديال··· تعرض قبل ذلك الباص الذي كان ينقل الجزائريين من المطار إلى الفندق لرشق بالحجارة من طرف ''متعصبين'' وشكا الجزائريون أمرهم إلى الفيفا بعد تعرض لاعبين لإصابات··· بعد هزيمة الفريق المصري على أرضية أم درمان بالسودان، قام مناصرون جزائريون ''متعصبون'' برشق الباص الذي كان ينقل شخصيات مصرية إلى المطار··· وفي الزمن المستقطع الفاصل بين المبارتين، في القاهرةوأم درمان·· تصاعدت الحرب في الميديا المصرية وبين عدد من الصحف الجزائرية·· وبعد ''موقعة'' الخرطوم كما وصفتها الميديا المصرية، تدخل لاعبون جدد في ''الحرب'' بدءا بالفنانين والمنشطين والبرلمانيين والمقربين من عائلة الرئيس المصري حسني مبارك·· ثم نجله علاء، ومسؤولين سامين على هرم الدولة، واصفين ما جرى على أيدي بعض الأنصار الجزائريين ضد الباص المصري، بأنه ''مؤامرة'' وإرهاب دولة خطط له في الجزائر، وعلى أعلى مستوى·· وقد ذهب بعض من وصفتهم الميديا المصرية بالصقور، إلى درجة اتهام الرئيس الجزائري بوتفليقة نفسه كرأس مدبرة ومخططة ''للإطاحة بدور مصر''! إن هذا المشهد ليس خيالا·· وإنما حقيقة حدثت على مساحة الميديا وأمام أنظار الملايين من المتفرجين·· وقد وصلت إلى أوجها سياسيا، عندما كان الكل ينتظر الكلمة الهامة، كما وصفتها الميديا المصرية، للرئيس المصري حسني مبارك في مجلس الشورى··· في ظل هذا المشهد تحولت اللعبة الرياضية إلى ميتا لعبة مخترقة كل الحدود التقليدية لكل لعبة، وأصبحنا أمام لعبة اللعب، أو أم اللعب، اختزل على أرضيتها عبر المخيالات الجماعية لدى الطرفين والتاريخ، وما يغذيه من أساطير عتيقة وجديدة وأناشيد وطنية ذات نبرة تعبيرية وحربية عند الطرف المصري وأغاني شعبية طرفية فيها من الفكاهة والسخرية المرة المجنسة لدى الطرف الجزائري··· إن الميتا لعبة، أو أم اللعب تحولت في لحظة وجيزة إلى قوة ميتافيزيفية رهيبة، مدمرة ومستترة من حيث الدلالة والفصاحة الظاهرة·· اخترقت سور السياسة، والإيديولوجيا وكل ذلك الميراث الأخلاقي والقيمي والروحي، الذي كنا نظنه يشكل روح الوشائج العميقة التي تجمع بين ذاكرتي ووجداني الشعبين·· بدا الاختراق لهذا السور العربي مفاجئا وعتيا ومثيرا للحزن في نظر الكثيرين ممن رضعوا حليب العروبة، وهم ينظرون بأم أعينهم كغير المصدقين إلى ما يحدث من دعاوي على أرضية الميدان، وكأنه دعاوي وصيحات حرب مقدسة، ليس لاستعادة كرامة مهدورة، وإنما لاستعادة ريادة هي أقرب منها إلى استعادة ''هيمنة'' تشكلت كيقين في صلب عقيدة العقل المصري··· إن محنة هذا الخطاب الذي عبر عن جزء منه يوسف القعيد، هو تعبير سافر ومكثف عن أوجاع هذا العقل المصري المفجوع بانكسار أحلامه القومية المحلية، وبعجزه عن إعادة اكتشاف نفسه كشكل من أشكال عملية الانحدار والسقوط، سقوط مصر كنخبة ودولة رائدة··· يسعى هذا الخطاب إلى تبني استراتيجية العمى والإعماء، بمعنى أنه يصر على نقل عجزه كمرض إلى خارج دائرته كتعبير عن مأزق نخبة، وذلك بالعمل على تعميمه بالاعتماد على الميديا إلى كامل المجتمع، بحيث يتحول إلى عقيدة مجتمع وبداهة ويرتقي عبر تسميم الوجدان والوعي الجماعيين إلى يقين متجذر في الأعماق، وإلى ثقافة عمياء ورادعة لكل صوت أو مشروع خطاب نقيض ومغاير·· هنا تكمن محنة هذا الخطاب الذي حول من هزيمة في كرة القدم إلى حرب افتراضية وعاشها كحرب حقيقية ليس بين بلدين أو شعبين وهما الجزائر ومصر بل بين مصر المنتجة عبر أساطير هذا العقل كخطاب وصورة وبين باقي ''الشقيقات الأخرى'' التي لا تريد أن تتحول إلى صورة خالدة وفق خطاب وتصورات هذا العقل المأزوم···