يعد عمار علي حسن من الأسماء القليلة المواظبة على المزاوجة بين التخصص العلمي والمنجز الإبداعي، فهو أستاذ علم الاجتماع السياسي الذي ألف مجموعة من الكتب الفكرية والسياسية بجانب إصداره لعدد من الروايات ومجموعة قصصية. لكنه لم يتوقف في هذا الحد بل أبحر أيضاً في مجال النقد الأدبي، حيث أضاف للمكتبة العربية إصدارين نقديين هما "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية" وكذلك "بهجة الحكايا: على خطى نجيب محفوظ"، في هذا الحوار المطول يرد الدكتور عمار على أسئلة تتعلق بتجربته الأدبية ونشاطه السياسي. كما يتوقف عند هاجس الكتابة ودواعيها لدى الفئة المثقفة ودور هذه الأخيرة في النشاط السياسي والفكري بمصر والعالم العربي. يعرف عنك إسهاماتك في مجالي السياسة وعلم الاجتماع كتخصص علمي، لكن بالنسبة للأدب هل لك أن تلخص لنا ملامح مشروعك وما الذي قدمته في الأدب ولم تقدمه في الكتب والمقالات؟ كتبت الأدب لأني من المؤمنين بأن العلم لا يجافي الجمال، وأن هناك، وحدة بين العلوم الإنسانية تجعلنا أمام علم إنساني واحد ذي فروع متعددة. فحسب اعتقادي أن الأدب رغم أنه تشكيل جمالي للغة في شاعريته وصوره المفارقة وروعة خياله يحمل مضامين اجتماعية حتى في أكثر صوره فنيةً، وحتى الذين اعتمدوا على فهم النص من داخله مستبعدين تأثير السياق الاجتماعي عليه عادوا ليعترفوا بخطئهم، وأبرزهم الناقد الكبير (تيزفتيان تودورف) الذي كتب مؤخرا إصداره "الأدب في خطر" ليقر بأن كل المدارس النقدية التي تعاملت مع الأدب كنص فني خالص قد ظلمته وكل المبدعين الذين حاولوا تجنب التعانق بين الجمالي والنفسي من ناحية، وبين الاجتماعي والإنساني من ناحية أخرى قد جانبهم الصواب. ويكفي أن نقرأ نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وبهاء طاهر ومحمد البساطي وخيري شلبي وإبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم لنبرهن على هذا، وحتى بعض مبدعي الجيل الجديد الذي نظر له إدوارد الخراط تحت عنوان الحساسية الجديدة لا تخلو أعمالهم من جوانب اجتماعية وإن أنكروا، وكل الأعمال المهمة التي حازت نوبل أو البوكر أو غيرهما من الجوائز الأدبية المرموقة كانت تحتوي مقولات عميقة تنتمي إلى ما نسميها بالسرديات الكبرى. وشخصيا حريص في كتابتي الأدبية على أن تكون البنية الجمالية للغة والتخيل حاضرين بشدة وهي نوع من الكتابة يختلف في الأسلوب وليس في المضمون عما أكتب في دراساتي الاجتماعية والسياسية. وأستغرب أننا بعد قراءة طه حسين ولويس عوض نعود لنسأل أسئلة عن الفصل بين إنتاج العلم وإبداع الأدب، لاسيما بعد أن أقبل باحثون وكتاب وعلماء على كتابة الرواية في العقد الأخير؛ فعبد الله العروي فيلسوف كبير وله رواياته وحليم بركات عالم اجتماع بارع وروائي مهم في الوقت نفسه وحتى أحلام مستغانمي الروائية الشهيرة هي أستاذة اجتماع وأدونيس الشاعر الفطحل باحث كبير في الوقت ذاته والدليل كتابه المؤسس (الثابت والمتحول)، وفي مصر أقبل قضاة وأطباء ومهندسون ومحاسبون وباحثون كثر على كتابة الرواية، لكن يبدو أن أولئك الذين لا يمتلكون القدرة على إنتاج ألوان متعددة من الكتابة مصرون على هذا الفصل الحاد الذي يبررون به عجزهم. هل تنزعج من تصنيفك ك "باحث ومحلل سياسي" - في غالب الوقت - على حساب منجزك الإبداعي الوفير؟ لست استثناء في هذه المسألة، ومع هذا فأنا أُعرف نفسي بالأساس كأديب درس العلوم السياسية، ولا أجد أي تناقض، فنجيب محفوظ قال: "لا يوجد حدث فني، إنما يوجد حدث سياسي في ثوب فني"، وأتحدى ألا تجد السياسة حاضرة في كل الأعمال السردية، بصيغة مباشرة أو غير مباشرة. ربما الضجيج الذي يصاحب السياسة واهتمام أكثر الناس بها لأنها تمس حياتهم هو الذي جعل الجمهور يعرفني من خلالها قبل أن يعرفني من خلال الأدب، لكن المسارين يلتقيان الآن، وأنا أسعى إلى الإجادة في هذا وذاك، وأسلوبي يختلف بينهما، والمهم الإجادة، والحكم للناس والنقاد. في روايتك "شجرة العابد" استلهمت روح الصوفية ورأى البعض أنك تطرح التصوف كحل وجودي لأزمات العالم الإنساني، فهل يمكن للتصوف من وجهة نظرك أن يساهم بالفعل في مواجهة الإرهاب والتطرف ويعمل على وجود عالم أكثر رقيا؟ ابتداءً علينا أن نفرق بين التصوف الذي يعني العلاقة الخاصة جدا مع الذات الإلهية، وبين (الطرقية) التي حولت التصوف إلى تجربة اجتماعية احتفالية ذات بعد ديني، الأول هو حل من زاوية القيم التي ينطوي عليها وهي المحبة والزهد والتسامح وهي قيم تنقص الحركات الإسلامية المسيسة التي حولت الدين إلى أيديولوجيا ودعاية سياسية رخيصة فكان ذلك على حساب المقدس والجليل والروحي في الإسلام. كان للصوفية تأثير واضح على الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر.. لماذا لم يعد هذا التأثير قائما، وكيف ترى واقع الطرق الصوفية اليوم؟ سواء على مستوى المشاريع الأدبية أو السياسية؟ الطرق الصوفية قديما كانت المسار الأبرز لا سيما في زمن المماليك والعثمانيين وربطها البعض وقتها بانتشار الفقر وطغيان الموروث الشعبي على التصورات الدينية، وكان الحكام منذ صلاح الدين يعتنون بالطرق الصوفية لكسب الشرعية ومواجهة أي خطاب ديني مناهض من زاوية ميل الحكام إلى الدين المستأنس الذي لا يطلب تغييرا ولا ينتصر للعدل والحرية وهما قيمتان أصيلتان في النص الديني السماوي، أما الآن فالطرق الصوفية متشرذمة وباهتة ومنسحبة تماماً أمام خطاب سلفي جامد وآخر إخواني مغرض، لكن بعد انكشاف أتباع هذا التيار بات الطريق مفتوحا للطرق الصوفية كي تعزز مسارها شريطة أن تنقي نفسها من الشوائب وتربح الرجال الذين يمتلكون روحا فياضة وعقلا خلاقا وقدرة على طرح تصورات تنقذ الناس من طغيان المادي في حياتهم وتجيب على أسئلة الواقع الاجتماعي. "شجرة العابد" مثلا تطرح ما يبدو أنه مقابلة بين التصوف والراديكالية عبر عاكف وأستاذه فضلا عن زميله في الأزهر.. فهل ترى أن وجود أحد التيارين ينفي الآخر؟ التصوف يقوم على المحبة والتسامح والزهد والمسالمة، والتطرف يدعو إلى الكراهية والتعصب والتكالب والتحارب، لكن يمكن للشخص الواحد أن يتنقل بين الحالين في زمن قصير، أو عبر حياته كلها، وهو ما جرى لبطل روايتي، الذي بدأ ثوريا وانتهى متصوفا، لكنه في الحالتين كان يبحث عن العدل. ألم تخف وأنت تكتب "شجرة العابد"، بكل ما فيها من غرائبية وواقعية سحرية، من الاتهام الجاهز بالسير على نهج روايات أمريكا اللاتينية؟ نحن الأولى بالواقعية السحرية، وهو ما تدل عليه الحكايات الشعبية الفرعونية والعربية، من ملاحم وسير وأساطير وكرامات للأولياء، توجتها "ألف ليلة وليلة" التي تأثر بها أدباء أمريكا اللاتينية، فهم من أخذوا عنا، وهو ما يعترف به بورخيس. وروايتي، كما وصفها الناقد الكبير د. صلاح فضل، "تضاهي آداب أمريكا اللاتينية، ولا تأخذ عنها". ولا تنسى أنني من بيئة ريفية صعيدية حيث تحيا الحكايات والأساطير والسير التي نعايشها منذ نعومة أظفارنا، وقد كنت أحفظ في طفولتي مقاطع كثيرة من السيرة الهلالية عن رواية جابر أبو حسين. وصفت في بعض لقاءاتك الصحفية الرواية ذاتها بأنها غير محظوظة أو بالأحرى مظلومة، أين مكمن هذا الظلم في تصورك..؟ مصدر الظلم هو ظهورها بعيد ثورة يناير وكانت الأذهان منصرفة للسياسة، وكذلك عدم الالتفات إليها في مصر نقديا وبحثيا بالقدر الذي قوبلت به في الخارج، حيث تعد باحثة جزائرية من جامعة المسيلة رسالة دكتوراه عنها تحت عنوان "الخطاب الصوفي في الرواية العربية: شجرة العابد نموذجا" بينما يعد باحث إيراني رسالة ماجستير عنها بعنوان "الواقعية السحرية في شجرة العابد"، وظلمت أيضا من مانحي الجوائز من قبل إما لاختلاف الأذواق أو فساد الضمائر. لكن الرواية لم تلبث أن بدأت تلاقي اهتماما في مصر، حيث وصفها الدكتور صلاح فضل أستاذ الأدب العربي بجامعة عين شمس بأنها "تقدم نموذجاً متفرداً في الرواية العربية، وأدب أميركا اللاتينية في واقعيته السحرية، لكنه في الحقيقة يناظره من دون أن يأخذ عنه". كما قال عنها الدكتور حسين حمودة أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة إنها "تخفي وراءها جهدا كبيرا مبذولا، وذائقة مدربة، صقلها الاطلاع على موروث طويل لاسيما عالم التصوف الرحب". ما الذي يمثله لك فوز روايتك "شجرة العابد" بجائزة اتحاد الكتاب المصريين؟ خطوة مهمة في مسيرتي الأدبية، فالاتحاد مؤسسة ضمت وتضم من تعلمنا منهم، وفيها رفاقنا على درب الكتابة الأدبية، وبعد فوزي بجوائز مهمة في العلوم الاجتماعية منها جائزة الدولة للتفوق وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وبعد فوزي بعدة جوائز في القصة القصيرة آخرها جائزة الطيب صالح، كان ينقصني جائزة في الرواية، وليست أي جائزة، إنما معتد بها، وها هي قد جاءت من اتحاد كتاب مصر. ألم تخش في روايتك "سقوط الصمت" التي أرخت فنيا لثورة الخامس والعشرين من يناير، أنك تكتب عن وقائع ثورة عايشها الجميع أو على الأقل تابع أحداثها لحظة بلحظة ولا يوجد فيها من جديد يدهش القارئ؟ فضلا عن أن نتاج الثورة المادي والمعنوي لم يتضح بعد بشكل كامل؟ الرواية بها شخصيات واقعية أضفت إليها من خيالي، وفيها شخصيات متخيلة بالكامل لكنها متفاعلة مع الحدث ولا تخلو من واقعية سحرية، حيث تخرج مومياء الملك زوسر من المتحف المصري وتتجول في ميدان التحرير، ويدخل بطل الرواية في حوار مع تمثال عمر مكرم، وتحكي روحا شابين استشهدا كل ما سيأتي، حيث تحمل الرواية نبوءة، لكن البعض يعتقد أنها مجرد عمل تسجيلي للثورة، وحتى لو كانت كذلك فهي ستفيد الأجيال اللاحقة التي لم تعش الثورة، أو حتى الأجيال الحالية التي لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكذلك العرب الذين يريدون أن يعرفوا أكثر عن الجوانب الإنسانية والنفسية والجمالية للثورة المصرية، ومع الأيام سيكتشف كثيرون أنه كان من الواجب علي أن أكتب هذه الرواية، قبل أن تفقد تفاصيل الأحداث طزاجتها. لكن ألا تتفق معي أنك كنت بحاجة إلى وقت أطول للتأمل قبل أن تكتب عن حدث لم يكتمل؟ خفت أن تضيع مني طزاجة الحدث ويفتر انفعالي به بمرور السنين وتسقط من ذاكرتي بعض مشاهده الإنسانية المشهودة، فأردت من خلال "سقوط الصمت" أن أجسد البطولة الجماعية والجوانب النفسية والجمالية التي لا يلتفت إليها المحللون السياسيون والمؤرخون لا سيما أنني كنت في قلب الحدث وتفاعلت معه وتماهيت فيه بشكل كامل، ورغم أنني كتبت التجربة الذاتية فقط في كتابي "عشت ما جرى.. شهادة على ثورة يناير" فإنني أردت في الرواية أن أسجل بشكل جمالي ما عاشه الآخرون. كتبت رواية غرائبية تتكئ على الخيال الجامح وأخرى تنتمي إلى الواقعية المفرطة.. ألا ترى أنها انتقالة حدية؟ وفي رأيك أي الاتجاهين يمكن أن يسهم في تكوين شخصية مستقلة للرواية العربية؟ وأي التيارين تفضل أن تتسم به كتابتك مستقبلا؟ من الضروري أن يوسع أي أديب عالمه حتى لا يقع في التكرار، وهذه مسألة طبيعية فعلها كل الذين سبقونا وتعلمنا منهم، سواء الأدباء العرب أو الأجانب، أما لو خيرتني أن أكتب لونا واحدا فسيكون بالقطع "الواقعية السحرية". ألفت كتابين في النقد الأدبي، حدثنا عن هذه التجربة ما الذي دفعك إليها وما الجديد الذي أردت أن تطرحه من خلالها؟ أسعى دائما ألا أكتفي بقراءة أعمال الآخرين وإنما أيضا أتناولها نقديا وذلك تلبيةً لطلب بعض الصحف والدوريات الأدبية وكذلك الندوات. وفي كتابي "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية" وهو أطروحتي للدكتوراه حاولت أن أبحث عن قيم الحرية والعدالة والمساواة في الرواية السياسية العربية من خلال نماذج اخترتها بعناية وفق معايير محددة متأثرا بما ورد من مضامين عميقة في علم اجتماع الأدب وعلم اجتماع الرواية. أما كتابي "بهجة الحكايا: على خطى نجيب محفوظ" فقد وضعت فيه بعض تصوراتي عن أدب نجيب محفوظ إلى جانب ما كتبته من مقالات نقدية عن بعض الأعمال الروائية والقصصية التي ظهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين متتبعاً منهجاً يمزج بين قراءة النص من داخله دلاليا ومن خارجه عبر رصد وتحليل تأثير السياق الاجتماعي عليه. يرى البعض أن النخب المثقفة لم تعد هي قائدة الفعل الطليعي في المجتمع العربي، خاصة مع بداية "الربيع العربي" الذي كشف أن الشارع تجاوز سقف "النخب المثقفة" هل تتفق مع هذا الطرح؟ المثقف الحقيقي دوما منحاز إلى الناس، يحمل أشواقهم الدائمة إلى التقدم والحرية والعدل، وهو معارض بطبعه ليس حباً في المعارضة، وإنما لأنه يجب أن يتمسك بالأفضل والأمثل لمجتمعه وبالتالي تتحول الثقافة إلى قاطرة تسير إلى الأمام، وهذه الخصال افتقدها أغلب المثقفين المصريين لا سيما في العقود الأخيرة فخسروا دورهم وتضاءلت ثقة الناس فيهم، ولا خروج من مأزقنا الراهن إلا بعودة المثقف ليؤدي دوره ويملأ الفراغ الذي تمدد فيه فكر يدعو إلى الجهل والجمود والصراع. ما هي أعمالك المقبلة في الأدب والاجتماع السياسي أو غيرهما؟ انتهيت من كتابة رواية "السلفي" وستنشر في غضون شهرين عن الدار المصرية اللبانية، وبدأت في كتابة السطور الأولى من وراية بعنوان "جبل الطير"، أما الأعمال البحثية فأعد، على مهل والأمر سيستغرق سنوات، موسوعة في علم الاجتماع السياسي.