كتبَ الأستاذان الجامعيان، عبد العزيز بوباكير ومحمّد هناد قبلَ نحو خمس سنوات، رسالةً إلى الرئيس بوتفليقة، يترجيانه عدمَ الترشّح لعهدة ثالثة، لما في ذلك من مساس بقيمته التاريخية، ودوس على مبادئ الديمقراطية والتداول السلميّ على السلطة، خصوصا وأنَّ الرئيسَ الأسبقَ المنحدر من المؤسسة العسكرية، كانَ قد عدّل الدستورَ وقيّد العهدات الرئاسية باثنتين، فليسَ معقولا أن يأتي إلى الحكم مدنيٌّ، ويتراجع في تعديله للدستور عن أهمّ مكسب ديمقراطيّ يضمنه القانون الأساسيّ للدولة. لكنَّ الرسالة لم تصل، لا إلى المعنيّ بعهدة أبدية كانت تراوده فكرتها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، ولا إلى الزملاء في الجامعة والحقل الثقافيّ والإعلاميّ، فكانت الثالثة كما رغبَ أنصارُها من برلمانيين ورجال المال والأعمال وأشباه السياسيين من "رخويات" و«طحالب"، وعوقبت الجريدة ناشرةُ الرسالة بعد مدّة غير طويلة، حيث شحّت مداخيلها منَ الإشهار، وصارت عبئا ثقيلا على المؤسسة التي ترعاها، فتوقّفت عن الصدور.. وعوقب في السياق كلُّ من اشتمّت فيه رائحة العصيان. وبعد حوالي خمس سنوات، وعشيّةَ التجديد للرئيس المترشّح لعهدة رابعة، صار أمثال محمّد هناد وعبد العزيز بوباكير يعدّون بالعشرات والمئات والآلاف، في الجامعة وفي الساحات العامة وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، ولم يعودوا يكتفون بالرسائل المتحضّرة والمحترمة، بل صاروا يصرخون في وجه أنصار "الوضع القائم" وينتظمون في حركات من قبيل "بركات" و"بزايد" و"رفض"، ولم يعودوا ضدّ "الرابعة" فحسب، وإنّما صارت مطالبهم أعمق وأشمل بضرورة تغيير "النظام" وإعادة النظر في الطرق غير الشفافة لممارسة السلطة وتوزيع الثروة، وصارت الجرائدُ الممانعة أكثر وانفتحت الفضائيات على المعارضين لاستمرارية "الفشل" و«الزبائنية" وهيمنة رجال المال الفاسد على السلطة، ولم يعد الأنصار التقليديون للوضع القائم قادرين على ملء القاعات والترويج لمشروعهم. فالشباب والشيوخ الذين كان يِؤتى بهم منَ المداشر والأحراش للغرض قبل خمس سنوات ب1000دج و«كسكروت"، صاروا يطالبون اليوم بأكثر، ويكفي أن يتجوّل الواحدُ في قاعات عرض "المترشّحين" ليقيسَ النفورَ وعدم الإستجابة. فقد تصل الرسالةُ متأخّرةً، وحينها يكون تأثيرها أبلغَ، لأنَّ الغضبَ بأثر رجعيّ يولّدُ حتما مشاعرَ رفض زائد عن اللزوم، تماما مثلما يكتشفُ العاشقُ بعد فوات الأوان أنَّ عشيقته كانت تخونه مع "البقّار"، وأنَّ هداياها له بمناسبات عيد الميلاد، كانَ مصدرها المال الفاسد والمغشوش، أو مثلما يكتشفُ الزّوجُ "العاقر" أنَّ "زوجته" كانت تتعاطى حبوبَ "منع" الحمل خفيةً بانتظار تطليقها للعودة إلى فراش "الحبيب" الأوّل، وفي كلّ الحالات يكون ردُّ الفعل أقوى من المحتمل، وأبعدَ ما يكون عن الحلول التوافقية، التي تضمنُ كرامةَ المرسل وعزّة المرسل إليه. فإذا وصلت الرسالةُ متأخّرةً كثيرا، وجبَ أن تُقرأ بحذر، ويُحطاتَ من تنوّع وتكاثر مصادرها، فالرسائل عبر تاريخ البشرية كانت دوما تعبيرا عن رغبة في الإنتقال من وضع "قائم" إلى آخر "مأمول"، وكانت الغلبةُ على الإطلاق للمصير الثاني، فلقد انتقلنا من "رسالة" بوباكير وهناد، إلى رسائل "بركات" وأساتذة الجامعة والبطالين والشاعرين بالغبن من مختلف شرائح المجتمع وفئاته، وانتقلَ "المطلب" من رفض ترشّح فلان إلى رفض النظام الذي صنعه، ومنَ الإيمان بمشروعه إلى الكفر بدين "الشيتة" الجديد، وطقوسه الغريبة في إبداء الطاعة والولاء إلى حدّ فاقَ كلَّ أشكال السخافة والقرف. المشكلةُ اليومَ وقد كثرت الرسائل، وتعدّدت وسائطها وساحاتها، لا تزالُ السلطة تؤمنُ بمؤشرات نسبة "المقروئية"، وعزوف الناس عن الشأن السياسيّ ومصير البلاد، وتلك مؤشرات خاطئة تماما، إذا قيست بالمستوى الضّحل لوسائل الإعلام التي تستخدمها هذه السلطة لتبليغ "رسالتها". ومعَ الوقت والإنحدار في "غير المسبوق"، يمكنُ قراءةُ "تسونامي" رسائل "التغريد" على المواقع التواصلية، التي لا تنفع معها لا رقابة ولا وصاية، فأجيال الفايسبوك والتويتر والهوتمايل والتدفّق السريع للنت، أجيال رقميةٌ، وقوّتها تكمنُ أساسا في الفهم بسرعة، والتواصل بأسرع، وعندما تقرّرُ هذه الأجيالُ أن تطوي صفحة "الرسائل" الإخوانية، و"تغرّد" بصوت واحد "بركات" "بزايد" "يكفي" "بزّاف"، يصيرُ "التكميمُ" أمرا مستحيلا، و"التعتيمُ" وقفةً إحتجاجية للتنديد باستغلال الوسائل العمومية، بما فيها "الوئام" في نسخته السمعية البصرية مثلا، لأغراض شخصية، وسؤال لماذا استخدام وسائل الدولة لصالح هذا المترشّح دون ذاك؟.. قال الراوي: لأنَّ الرئيسَ كانَ وجّهَ للإدارة والمؤسسات العمومية "رسالةً" مطوّلة حول الحياد، فسارعت إلى تلبية الدعوة، وانخرطت في المسار، لأنَّ المشكلةَ كما في "المقروئية" ونسبتها، فهي أساسا في عدم القدرة على الإستيعاب، وفي سوء الفهم، والتأويل الخاطئ للمضمون... هذه هي المشكلةُ الكبرى.