"ما الذي أفعله هنا فوق منصة الشرف هذه؟.. أنا الذي اعتبرت الخطابات، على الدوام، أشد أشكال الالتزام البشرية رهبة" يتساءل الكاتب الكولومبي الشهير حائز نوبل للآداب "غابرييل غارسيا ماركيز" في إحدى خطبه التي يحتويها كتابه الصادر، عن الهيئة العامة السورية للكتاب وعنوانه "لم آت لألقي خطابا"، وترجمه عن الإسبانية: صالح علماني. تضمن الكتاب 24 خطابا ألقاها ماركيز عبر سنوات حياته الطويلة، والنصوص المجموعة هنا كتبت لتقرأ أمام جمهور، وهي تغطي حياته كلها ومنذ النص الذي كتبه في السابعة عشرة من عمره لوداع زملائه في الفصل الأخير بمدرسة ثيباكيرا، عام، حتى النص الذي قرأه وقد بلغ الثمانين من عمره أمام أكاديمية اللغة، وبحضور ملكي إسباني عام 2007. يحتوي الكتاب على مختارات متنوعة لشغف "ماركيز" في مختلف المجالات التي كتب عنها، وهي عديدة، تبدأ بالأدب والسينما وتمر بالسياسة والصداقة، وتنتهي بالمشاكل التي تعيشها أميركا اللاتينية.. في النصوص الأولى يظهر واضحا الصدود الذي يشعر به ماركيز تجاه الخطابة. "لم آت لألقي خطابا"، هذا هو التنبيه الذي يقدمه لزملاء المدرسة في المرة الأولى التي يعتلي المنصة، وهي الجملة التي اختارها عنوانا لهذا الكتاب، وفي النص التالي "كيف بدأتُ الكتابة"، والذي قرأه كمؤلف ناجح ومشهور لرواية مئة عام من العزلة، في العام 1970، ينبه مستمعيه مسبقاً إلى نفوره من الخطابة: "بدأتُ أصير كاتباً بالطريقة نفسها التي صعدت بها إلى هذه المنصة: مكرهاً" وفي محاولته الثالثة، عند تلقيه جائزة روميلو غاييغوس، عام 1972، يؤكد أنه قد رضي "الإقدام على عمل شيئين من الأشياء التي عاهدت نفسي على عدم القيام بها أبداَ: تلقي جائزة وإلقاء خطاب. لقد ظننت على الدوام، خلافا لوجهات نظر أخرى محترمة جدا، أننا نحن الكتاب لم نوجد في الدنيا من أجل أن نتوج، وكثيرون منكم يعرفون أن أي تكريم عام هو بداية تحنيط، لقد ظننت على الدوام، باختصار، أننا نحن الكتاب لسنا كتابا بفعل مزايانا الخاصة، وإنما بفعل نكبة أننا لا نستطيع أن نكون شيئا آخر، وأن عملنا المتوحد يجب ألا يستحق مكافأة أو امتيازا أكبر من ذاك الذي يستحقه الحذاء على صنع حذائه". بعد عشر سنوات من ذلك تلقى غابرييل غارسيا ماركيز جائزة نوبل في الآداب، ووجد نفسه تحت وطأة الحاجة الملحة إلى كتابة أهم خطاب يمكن لأي كاتب أن يواجهه في حياته. وكانت النتيجة عملاً بارعاً: "عزلة أميركا اللاتينية". وفي هذا الخطاب لم ينس غارسيا ماركيز التذكير بأساتذته الذين تعلم الكتابة منهم، الأميركي وليم فوكنر، بابلو نيرودا وتوماس مان. ثلاثتهم حصلوا على جائزة نوبل مثله، لكن كلماتهم كانت سياسية بالقدر نفسه كانت فيه أدبية، "لأن الأصالة التي تستسلم لنا في الأدب، ومن دون تحفظ، تمتنع عنا وبكل أشكال عدم الثقة محاولتنا الصعبة للتغيير الاجتماعي". في الخطابات تبرز ذكريات ماركيز الحميمية والمؤثرة، وصداقاته الكبيرة لكتّاب مثل خوليو كولتثار وألفارو موتيس وآخرين، فعن الكاتب الكولومبي الفارو ماتيس يقول ماركيز: "الفارو ماتيس وأنا عقدنا معاهدة ألا نتحدث للرأي العام أحدنا عن الآخر، لا بالمديح ولا بالذم. كان ذلك القرار مثل تطعيم طبي ضد المديح المبالغ عندنا نحن الاثنان". في عام 1993، وفي عيد ميلاده السبعين، كسر الفارو ماتيس وصديقه المعاهدة تلك. وقد كسر ماتيس"المعاهدة قبله، لماذا؟، لأنه "لم يعجبه الحلاق الذي اقترحته عليه". ثم يروي ماركيز رحلة ماتيس معه للسويد وحضوره حفل تسلمه جائزة نوبل، ويؤكد ماركيز أنه مدين لصديقه، لأنه أعاره كتاب "بيدرو بارامو" قائلا "خذ، كي تتعلم" ومن يومها تعلم طريقة جديدة للكتابة. في رثاء آخر للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازار تحت عنوان "الأرجنتيني الذي جعل الجميع يحبونه"، تحدث ماركيز كيف أن كورتازار كان "الكائن البشري الأكثر أهمية الذي حالفني الحظ بالتعرف إليه". عرض: جازية سليماني الكاتب الكولومبي داسّو سالديفار في كتابه البيوغرافي: "غارسيا ماركيز، سفر إلى الينبوع" الصادر عن دار "لوغراند ميروار" البلجيكية، يتحدث عن المرحلة الباريسية في حياة غارسيا ماركيز وإقامته في شارع "كوجاس"، في الحي اللاتيني، الذي أطلق عليه اللاجئون المنحدرون من أمريكا اللاتينية اسم "قبيلة كوجاس" الأمريكية اللاتينية، حيث تأثر ماركيز كثيراً بثورة الجزائر، وتقاسم السجن مع المواطنين الجزائريين، فقد كانت سحنته توحي للشرطة الفرنسية بأصول مغاربية! وفي هذا الإطار يقول داسّو "لم تكن حرب الجزائر تحتل الساحة الإعلامية بعدُ، ولكنها كانت واقعاً مُهدِّداً لغابرييل غارسيا ماركيز لسحنته العربية (رأسه يشبه رؤوس العرب)، وقد دفع الثمن، إذ لدى خروجه من قاعة سينما ذات مساء، اعتقد رجال الدرك الفرنسيون أنه جزائري، فأشبعوه ضرباً ونقلوه إلى مقر الشرطة في "سان جيرمان ديبريه" مع جزائريين حقيقيين، حزينين وذوي شوارب مثله، وتلقوا هم أيضاً الضربات. وكي يُهدِّئوا من ضيقهم أطلقوا العنان طول هذه الليلة لترديد أغاني الفرنسي "جورج براسانس". فارتبط ماركيز بصداقتهم، وبالأخص بالدكتور أحمد طبّال الذي نجح في تحسيسه بقضية وطنه. في هذه الحقبة أنجز غابرييل ماركيز العديد من الريبورتاجات عن حرب الجزائر وعن حرب قناة السويس". «لم أستطع النوم لغضبي من كوني أفكر فيه، ولكن ما كان يغضبني أكثر: هو أنني كلما ازددت غضباً، كان تفكيري فيه يزداد." "إذا كنت تظن أنك قادر على العيش دون كتابة، فلا تكتب ..." "لقد محا الحنين - كالعادة - الذكريات السيئة، وضخم الطيبة. ليس هناك من ينجو من آثاره المخربة". "إن الشيء الوحيد الذي أريده في هذه الحياة هو أن أكون كاتباً، وسوف أصير كذلك." "يهزني اليقين بأن ذلك العناق الطويل ذا الدموع الصامتة، هو أمر لا مفر منه كان يحدث على الدوام في حياتي نفسها." "أكاذيب الأطفال هي علامة موهبة كبيرة !"