لا يوجد قارئ في مساحات، وساحات، وجغرافيات القراءة وأرخبيلاتها، الممكنة، والمحتملة، في اليابسة، في العالم، وفي أرجاء المعمور، وفي القرى النائية في شرفات القارة المفتونة بسحرية الواقع وتصدعاته، حتى وإن كان "افتراضيا" لا يعرف "غابريل غارسيا ماركيز" الكاتب، المبدع الملهم، والإنسان. كاتب أمتع العالم بكل ما أوتي من قوة الإبداع والفعل النصي والكتابة، واستحضار تفاصيل الوجود، والكائنات، والمحيط، والمجال، والإنسان، وتناقضات الروح والعقل، والوجدان وشؤون الذاكرة الجمعية، وأسرار قارة برمتها، وهذا سر نجاحه، سر ذيوعه وانتشاره في خلايا العالم وبكل لغات الكون الميت منها والحي. «مائة عام من العزلة" رائعة غابرييل غارسيا ماركيز التي جلبت له حظ الجائزة المشتهاة لدى كل كتاب الكون "نويل للآداب" سنة 1982، قصتها ساعة النشر لم تخل من غرائبية التفاصيل وسحريتها، ذهب ماركيز إلى البريد برفقة زوجته لإرسالها إلى الناشر، ولأنها كانت من مئات الصفحات المرقونة بالآلة الكاتبة التقليدية، ونظرا لوزنها الثقيل، مما تطلب ثمن باهظا لم يكن في حوزة الكاتب وزوجته، اقترح عليهم موظف البريد أن يرسلوا نصفها مادام المبلغ المالي الذي في حوزتهما يسمح بذلك، وفي غمرة الاستبشار بالفكرة وسحر وقعها، قسم ماركيز الرواية إلى نصفين، لكنه انتبه عند الإرسال إلى أنه أرسل النص الثاني من الرواية. في روايته خريف البطريق، أم الجنرال -الديكتاتور الحاكم- تقول "لو كنت أعلم أن ولدي سيكون حاكما يوما، لأرسلته على الأقل إلى المدرسة". كأنه يسخر من جبابرة ودهاقنة العالم الذين يحكمون من موقع الجهل الشعوب لا العقل الذي يحتكم للعلم والمعرفة، وهو صاحب روح ساخرة ودعابة عاليتين ساعة وصف العتاة. قوة غابريل غارسيا ماركيز الذي حقق متعة الأدب ولذة النص لملايين القراء وفي كل القارات، تكمن في كونه كان من الناس وإليهم، ولا وصفة سحرية أخرى اعتمدها، قدرته الخلاقة في الإصغاء إلى الناس والانتباه إلى أثرهم في إنتاج إشارات الإبداع والصور والاستعارات، وإسعاف الذاكرة على المتخيل، وتفعيل التعدد والاختلاف والتنوع، والحق في الثقافة. هذا وغيره كان رأسماله الرمزي الذي لا يفنى وجسر تواصل ظل قائما لا يترك مجالا للهوة أيا كانت سحيقة منذ استوعب فعل الكتابة إلى أن كتب نصه الأخير حجة وداع لقراء أدمنوا نصه وحققوا المتعة واللذة التي يوفرها الأدب الرفيع، ومنه أدب غابريل غارسيا ماركيز الذي سيظل في سجل الخالدين. الآن يستكين غابو لسكينة الأبدية راضيا عن النص ونفسه معا، بعد أن ودع القراء والكتابة. بعد أن منح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه على حد تعبيره.... ولنا أن نعود إلى روائعه كلما اقتضت الذاكرة النبش في شخوصه التي تعمر طويلا إلى حد الخلود.