شكل عدم اهتمام المهاجرين العرب بوجه عام والجزائريين بوجه خاص بالثقافة في باريس هاجسا وجوديا دائما في حياتي الشخصية والمهنية اليومية لما يعكسه من حقائق تاريخية وسياسية وفكرية لا تكشف فقط عن شمولية واستراتيجية المستعمر القديم والجديد فحسب، بل أيضا عن مسؤولية السلطة الجزائرية "المستقلة"، وهي نفسها المسؤولية التي تقع على عاتقها في الجزائر التي مازالت فيها الثقافة آخر هم في أولويات السياسيين كما بينت ذلك برامج المرشحين للانتخابات الرئاسية الأخيرة. تشردي في الأعوام الأولى لهجرتي بعد اغتيال الجار محمد عبادة في الجزائر الشاطئ على بعد أقل من كيلومتر من مسكني قادني أكثر من مرة إلى مهاجري الخمسينيات والستينيات الذين يعيشون في غرف "بنايات سوناكوترا" الأقرب إلى الزنازن. هذه البنايات القاتمة والبائسة مازالت شاهدة حتى يومنا على الاستراتيجية الاستعمارية التي أرغمت الآلاف من الجزائريين إلى الهجرة بحثا عن لقمة عيش غير كريمة في فرنسا التي كانت في أمس الحاجة إليهم لبناء الكثير من المرافق الإنمائية التي عجلت بتقدم الآلة الإقتصادية والتي تعطلت في الأعوام الأخيرة لأسباب هيكيلية داخلية وليس بسبب المهاجرين كما يدعي الكثير من المثقفين الفرنسيين الذين يوصفون بالكبار. الأجيال الأولى من المهاجرين لم تتمكن من محو أميتها، وعمي قويدر الذي كنت أقرأ رسائله الآتية من الجزائر كان أحد الآلاف الذين راحوا ضحية خطة استعمارية جديدة كانت وراء بقائه أميا مدى الحياة مجسدا مقولة بولو... ميترو ... دودو أي عمل ونقل ونوم التي نسجتها فرنسا بدقة بتعمدها عدم تعليمه الحروف الهجائية وتوعيته اجتماعيا ومدنيا حتى يتمكن من قراءة الرسائل وفهم كشف أجرته حتى يتفادى استغلاله وسرقة عرق جبينه، وزملاء عمي قويدر الذين بقوا أميين مثله وأنجبوا في فرنسا بعد التحاق الزوجة هم المسؤولون عن انحراف الأبناء كما يقول إريك زمور الذي جعل من تشويهم همه الفكري والوجودي الأول والأخير. من عمي قويدر الأمي إلى رشيد الجامعي عمي قويدر المهاجر الأمي وزملاؤه الكثر لم يكن باستطاعتهم التردد على المسارح والقاعات السينمائية والمتاحف والمعارض والمكتبات العمومية والخاصة بحكم التجهيل الاستعماري القديم والجديد وضيق الحال المادي، لكن جيل المهاجرين الجدد الذين تخرجوا من جامعات الجزائر المستقلة وأطلق عليهم ساركوزي جيل الهجرة الإيجابية المنتقاة هم أيضا كعمي قويدر، ويتفوقون عليه فقط بتمكنهم من قراءة وكتابة الرسائل وركوب الميترو بسهولة ومن النوم والأكل والنكاح في حين ترك عمي قويدر زوجته مكبوتة جنسيا بصفة خرافية وضاربة المثل الأعلى في قبول الأمر الواقع. الكثير من مهاجري الجيل الثاني والثالث ما بعد الاستقلال والعشرية السوداء تزوجوا في فرنسا من أجل "الكواغط" أو هاجروا رفقة زوجاتهم الجامعيات والمثقفات وفق المنظور الشعبي لا نراهم في المسارح وفي القاعات السينمائية وفي صالونات الكتاب وفي المكتبات الخاصة والعمومية المجانية ويعيشون بوجه عام على هامش الحياة الفكرية والفنية والحضارية الغنية والمتنوعة. المهاجرون الجزائريون ليسوا وحدهم الذين يمثلون هذه المأساة التي تحدث عنها ياسمينة خضرا لصاحب هذه السطور بعد أن حضر أقل من عشرة أشخاص ندوة كرمت محمد ديب في المركز االثقافي الجزائري، والجاليات العربية المهاجرة بمختلف أصنافها وأعراقها والممثليات القنصلية المخملية هي الأخرى غائبة في المناسبات الفكرية والفنية الهامة وغير الهامة. إعلام يعادي الثقافة لست اختصاصيا في الهجرة كالراحل الكبيرعبد المالك صياد لكن من حقي أن أجتهد كصحفي عاش سوسيولوجيا وسيكولوجيا الهجرة وإقبال الأجانب والفرنسيين على الثقافة والفنون في فرنسا وفي غيرها من بلدان العالم غير العربية بالقول إن الظاهرة المثارة تفسر بعدة عوامل. تأتي على رأس هذه العوامل غياب التربية الثقافية والفنية في المنظومة التربوية بكافة مراحلها وإعلام متخصص وتهذيب حسي ومدني منذ الطفولة وانفتاح على ثقافات وفنون ومعتقدات الشعوب وتربية لا تجعل من الدين مصدرا ثقافيا وحيدا وواحدا ومنافيا لكل ما يصقل الروح ويغذي العقل رغم وضوح القرآن في المسألة العقلية والمعرفية وحثه على طلب العلم والقراءة. أدلتي على صحة ذلك كثيرة وأقتصر على بعضها بذكر معلمين ومديري مؤسسات تربوية لا صلة لهم بالفنون وروؤساء تحرير صحف عادوا الثقافة واشتهروا بأميتهم الفنية في عهد الحزب الواحد ولم يدخلوا مسرحا ولا متحفا في حياتهم وألغوا الصفحة الثقافية في عهد التعددية الكاذبة وانتهجوا سبيل البزنسة السياسية الرخيصة قبل وبعد العهدات الأربع للرئيس بوتفليقة وطبلوا لثقافة الخيمة على حد تعبير الروائي الأمين الزاوي وهي الثقافة التي تخرج منها دول الخليج التي تنبهت لخطر الاعتماد على النفط الذي يفسر ثقافة زردات الخيم العصرية. للمأساة جذور تاريخية وسياسية وفكرية تربوية ونفسية وحضارية أنتجت شعبا مغتربا ثقافيا سواء كان في بلده أو في الخارج والمعارض الثلاثة الهامة جدا التي يحتضنها معهد العالم هذه الأيام حتى غاية نهاية الصيف تهم العرب والمسلمين بامتياز، وللأسف الشديد مازالت نسبة إقبالهم عليها ضعيفة وتكاد لا تذكر مقارنة بالزوار الفرنسيين والمهاجرين غير العرب والأجانب بوجه عام. معارض قطار الشرق السريع أو الأورينت إكسبرس الذي يحكي تاريخ القطار الخرافي الذي قطع الشرق الأوسط انطلاقا من عام 1883 والحج إلى مكة والمأساة السورية التي يحتضنها معهد العالم العربي لم تدفع الكثير من الجامعيين والمثقفين العرب إلى زيارتها والتمتع بجماليات تهذب الروح وتصقل النفس وتنمي الذوق والمعرفة الفنية والتاريخية والإسلامية والسياسية. تمنيت لو أقبل ثلث جمهور الملتقى السنوي لمسلمي فرنسا الذي ينظمه سنويا اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا على المعارض المذكورة حتى لا تستمر فكرة تناقض الإسلام مع الفنون والانفتاح على الآخر ونقطع الطريق على تجار الخلط بين الإسلام وبين نمط معين من المسلمين الذين يطلق عليهم اليوم وصف الإسلاميين. مثقفون وجامعيون مسلمون لا يعانون من الجوع ولا هم جهلة ولا يبيتون في العراء لم يذهبوا حتى هذه الساعة إلى معهد العالم العربي الذي يبعد عن مسجد باريس بأقل من كيلومتر. أحلم بمثقف مسلم يتوجه بعد أدائه صلاة الجمعة في مسجد باريس إلى معهد العالم العربي لزيارة معرض الحج على الأقل في مرحلة أولى فيضطر أن يعرج على معرضي قطار الشرق والمأساة السورية.