حين استعصى أمر إخراج الألف جني يهودي من القرية، قال بلحمر لأهل القرية: اذهبوا.. سأتدبر الأمر.. دخل الغرفة.. أغلق الباب خلفه وجلس.. ماذا أنت فاعل يا بلحمر؟.. سأل الأحمرُ بلحمرَ.. أطال التفكير.. ضرب أسداسه بأخماسه ولم يجد الحل.. في المنتصف.. منتصف الليل تماما.. وجدها.. صاح نيوتن فيه: وجدتها.. وجدتها.. قال للجن اليهود في الصباح، وهو يمشِّط بيمناه لحيته المحناة: ماذا أعجبكم في هذه القرية المنعزلة؟.. الصيف قريب.. وحرارة شمس المكان شديدة.. لا تطاق.. ولا نور في الليل يضيء الصدى.. نظر الجن إلى بعضهم البعض.. قال بوتفائيل: أعجبتنا وجوه الشاويات القمحية..: وغناؤهن الشجي..أضاف توفائيل.. وحنين ناي رجالهم قال قيدائيل مبتسما.. قال بلحمر: الوجوه القمحية تلفحها شمس هجير الصيف فتحترق.. والغناء يقتله النعاس.. أما حنين الناي فهو الحزن الذي سيعم المكان.. هل جئتم يا أيها الجن إلى هنا لتمرحوا وتفرحوا؟.. أم جئتم لتغتموا؟.. أجاب الجن اليهود دفعة واحدة: جئنا لنمرح ونفرح.. جئنا لنغني ونشطح.. ابتسم بلحمر.. قال في سره: ارم دلوك يا بلحمر.. ارمه عميقا.. نظر إليهم جميعا: هذا المكان لا يليق بكم يا سادتي.. وأين تريدنا أن نذهب يا بلحمر؟.. سأل خدمائيل.. الأماكن الجميلة كثيرة يا أصدقائي.. قال أصدقائي برقة منقطعة النظير.. أضاف: سترون وجوها نسائية لم تروها قط طوال حياتكم يا أحبتي.. سترون النساء عاريات.. سترونهن والمياه الموجية تحضن أثداءهن.. سترون.. سترون.. قال كل ذلك بهمس جميل يغري الآذان ويفتح الصدور.. سترقصون في الحفلات الليليات الصاخبات.. ستسمعون الكثير الكثير من الغناء الشجي.. ومن موسيقى الحياة.. قال أويا ئيل: شوقتنا يا بلحمر.. نهض بلحمر مزهوا سعيدا.. نادى على الأهل.. أهل القرية: هنيئا لكم.. سيخرج الجن اليهود من قريتكم.. سبع جديان سود اذبحوا.. بخروا المكان .. ارموا بعض قطع اللحم في الجهات الأربع.. ونصف أربع الجهات.. وكلوا ما يتبقى.. واردموا العظام هاهناك.. وأشار إلى شجر السدر.. أكل بلحمر الكثير من شواء أفخاذ الجديان.. من القلب أكل.. من الكبد.. أكل الخصيتين الكبيرتين.. للراقي هاتان الخصيتان، قال مبتسما.. وراح يأكل بنهمه الشديد اللسان.. أكل الجن اليهود أيضا.. و.. بعد أن شبعت بطن بلحمر.. قالت للرأس: أيتها الرأس، غني لي.. وغنت الرأس: قالت الجن: عليكم بوضع قطعة لحم كبيرة على قمة الجبل.. وأشار إلى القمة.. سأختار قطعة اللحم بنفسي..و.. وقف.. إلى يمينه التفت.. ابتسم وحرك رأسه.. نعم، نعم سيدي.. أمرك سيدي.. لكبير الجن شرط لا بد من تنفيذه يا أهل القرية.. هكذا أخبرني الكبير.. كل شروط الكبير مستجابة.. قال رجال القرية.. يقول كبير الجن: اختاروا أجمل فتاة في القرية.. تصعد الفتاة الجبل حاملة قطعة اللحم.. لن يرافقها أحد.. فقط.. بلحمر يرافقها.. وبعض الجن معه.. نظر رجال القرية إلى بلحمر مندهشين.. وإلى بعضهم البعض نظروا حائرين.. لم تتكلم الألسنة فيهم.. لم تتحرك الأيادي رافضة.. ولا الأقدام.. تسمروا في أمكنتهم.. تماما كما الأرض التي يقفون عليها.. و.. لم يطل الصمت.. تذكروا حقولهم المشتعلة، وأشجارهم المنكسرة.. تذكروا العواء الغريب الذي كانوا يسمعونه كل ليلة.. تذكروا ألوان الضوء التي كانت تلمع في سمائهم، ثم تختفي تاركة في المكان الدخان.. تذكروا خوفهم وأرقهم.. تذكروا الريح.. تذكروا الحجارة.. تذكروا.. تذكروا.. ابنتك يا عمي الصالح.. صاح أحدهم.. ابنتك وردة يا عمي الصالح.. قالوا جميعا.. إلا هذه.. قال عمي الصالح غاضبا.. لن تكون ابنتي.. أبدا، لن تكون ابنتي.. تقدم بلحمر منه.. على رأسه بسط الكف.. رجال القرية اتفقوا يا عمي الصالح.. والجن أيضا.. وليس في مقدورك أن ترفض.. قابل عمي الصالح بلحمر بنظرة حانقة خانقة.. مليئة بالكثير من الرفض والخوف معا.. رفضك يسكن الجنَّ ابنتَك.. قال بلحمر بصوت خاشع مهيب.. يسكنُها الجن ُّويتزوجها، أكمل.. ستتعب ابنتك يا عمي الصالح.. ستتعب معها.. وجه الصالح نظرته إلى الأرض.. تحركت الأرض، ولم تتحرك.. ارتعدت جمجمته إذ لا مست كفيه.. فكر.. فكر.. و..حرك رأسه موافقا.. وباكيا.. في الجبل، والقمة بعيدة.. قال بلحمر للفتاة: هذه العشبة مباركة.. كليها.. سعيدة ستعيشين طوال حياتك.. وأكل بعضها.. و.. حين استعادت وعيها، كان كل شيء قد انتهى.. إياك أن تخبري أحدا بما حدث.. قال محذرا.. سيسكنك الجن.. يسكنك ويتزوجك.. ستعيشين مشردة في الجبال.. حافية وعارية.. و..ذابلة يا وردتي.. أجهشت الفتاة بالبكاء.. سار.. وسارت خلفه تائهة حزينة.. في المساء كان والجن في المكان.. كان البحر يرسل تنهيداته.. إنه الشوق إليهن قال غامزا، بلحمرُ.. تمدد الموج.. إنه الحنين إلى صدورهن، قال ضاحكا.. رأى الجن الناس يمرقون.. النساء والرجال والبنات والبنون.. ما ألذه المكان.. قال سيدائيل سعيدا.. ما أجمل النساء، ما أبهجهن، قال بلعائيل فرحا.. رقص الجن طوال الصيف.. غنوا أكثر مما غنوا في كل حياتهم..لا مست أياديهم نهود النساء.. مؤخراتهن.. مُأَمماتهن.. عانقوهن في المياه البحرية.. في مياه الاستحمام.. في الأفرشة.. في المراحيض.. في يقظاتهن.. في المنام.. انتقل الجن من مكان إلى مكان.. بلحمر الدليل.. والمياه الصولجان.. و.. حين انتهى البحر.. لا نساء.. لا رجال.. لا غناء.. لا جمال.. سأل الجن بلحمر: والآن يا ابن الأحمر.. يا فتان، يالسَّان.. عض بلحمر على أسنانه.. مسح لحيته بأصابع يسراه.. ماذا أنت فاعل ؟ سأل نفسه.. لنسِرْ، قال للجن.. أضاف: المكان الذي يروق لكم يكون المكان.. مدنا كثيرة زاروا.. ولم ترقْ لهم.. قرى كثيرة دخلوها.. ولم تعجبهم.. جبالا صعدوا.. سهولا شقوا.. هضابا عانقوا.. ولا مكان.. و.. دخلوا العاصمة.. قال كبير الجن وقائدهم بوتائيل: ما أجمله هذا المكان.. ارتعد بلحمر.. عاصمة البلاد هذه.. قال لهم ويداه ترجفان.. دلنا على القصر.. صاح سيدائيل.. وكفاه على رأس بلحمر تضربان.. سار بلحمر.. سار الجن خلفه وحوله.. هاهو القصر.. الحراس.. الحراس.. الح ح ح ح.. رررراااااااا.. سسسس.. كان ذابلا حزين.. دخل الجن القصر.. كان أهل القصر في اجتماع.. بينهم تجالسوا.. تلامسوا.. تهامسوا.. تغامزوا .. الدور حان يا رفاقْ.. يا شآمُ.. يا عراقْ.. سنحكم البلادَ.. نركب العبادْ.. توفائيل.. ذاك لك.. قيدائيل.. تلك لك.. ذاك.. تلك.. تلك.. ذاك.. لك.. ولك.. ولك.. ولك.. وزع بوتائيل ما أمامه.. سكنوا الأجساد والعقول هانئين.. سافروا.. وسوَّحوا.. ودوّخوا.. أكلوا الشموس والأقمار والأنهار والجبال.. جففوا الحقول من بترولها.. وأحرقوا الحقول والسهول.. صحَّروا البحار.. وفي القريب.. في البعيد.. كانت الرقية تمد نفسها أفاعي تملأ الشوارع التي ترج أرضها النعالْ.. كانت جدران المنازل ذئابا تعوي وضباعا.. كانت مياه الحنفيات بغالا عرجاء.. وكانت الأرصفة هراوات حديدية تخبِط في الزحامْ.. كانت السماء غبارا لاهثا.. والمدى كان الظلامْ. سطيف: 01 ماي 2014