الكأس الممتازة/م.الجزائر-ش.بلوزداد (4-3): "العميد" يفتك "التاج" الرابع في نهائي مثير    تجديد الثقة في الصحفي " الشارف قسوس"    اتفاقية إطار لتشجيع المقاولاتية لدى خريجي التكوين المهني    العرباوي يشرف مناصفة مع كمال المدوري على إحياء المناسبة    إطلاق سراح 183 أسيرا فلسطينيا من السجون الصهيونية    عطاف يستقبل من قبل الرئيس سوري خلال المرحلة الانتقالية    خنشلة : الأمن الحضري الخامس يوقف شخص يقوم بترويج المخدرات    الدراجات/ طواف الجزائر2025/ الجائزة الكبرى لساقية سيدي يوسف: فوز الاريتيري مايكلي ميلكياس بالسرعة النهائية    الصالون الدولي للبناء و الأشغال العمومية و المنشآت البترولية بالجنوب: أزيد من 60 عارضا بورقلة    حيداوي يعلن عن إطلاق المسابقة الوطنية "شباب سفراء الذاكرة" يوم 18 فبراير بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للشهيد    إطلاق حملة وطنية تحسيسية حول حماية الأطفال من مخاطر الاستعمال السيئ للانترنيت    وزير النقل يعلن عن إجراءات استعجالية و أخرى استدراكية لحل مشكل النقل بولاية البليدة    السكك الحديدية: الانطلاق في مشروع الخط الجزائر-تمنراست السنة الجارية    معسكر: تأكيد على أن دولة الأمير عبد القادر كرست القيم الإنسانية و الحضارية    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على قطاع غزة إلى 48181 شهيدا و111638 مصابا    كأس الجزائر: إتحاد الجزائر و أولمبي أقبو في أحسن رواق لبلوغ ثمن النهائي    "جرائم حرب فرنسا في الجزائر, 1830- 1847" , إصدار جديد لكريمة آيت دحمان    قوات الاحتلال الصهيوني تقتحم مدنا وبلدات في الضفة الغربية وتطبق الحصار على طمون والفارعة    79 دولة تؤكد دعمها لاستقلال المحكمة الجنائية الدولية    وزير الصحة يستقبل أعضاء النقابة الجزائرية لشبه الطبي    مئات آلاف النازحين في مواجهة الموت بردا    رحلة جديدة باتجاه موريتانيا    الجزائر تترأس هيئة إفريقية    حيداوي يبرز جهود الدولة    مدير جديد لشركة الأملاح    صالون دولي بالجزائر للحديد والصلب    توفير إطار معيشي ملائم من أولويات الرئيس    صيدال بصدد إنتاج المادة الأولية لعلاجات للسرطان    تطابق في الرؤى حول القضية الفلسطينية    تكثيف المشاورات وتوحيد المواقف والرؤى    الجزائر والهند نموذج للنهضة والتقدم في مختلف المجالات    قانون جديد لتنظيم نشاط الترقية العقارية قريبا    الجزائر ترفض مخططات إفراغ غزّة من سكانها الأصليين    حج 2025.. بآليات تنظيمية ورقمية متطورة    الجزائر تدعو إلى ضبط النّفس ووقف التصعيد    تدابير قانون المالية تهدف لتحسين مناخ الأعمال والاستثمار    الإطاحة بمحترفي السرقة    الجزائر جاهزة لاحتضان أول نسخة من الألعاب المدرسية    أنصار "السياسي" مستاؤون لتقاعس الإدارة    تكريم "نورية" إعتراف بدورها في سطوع المرأة الجزائرية على الخشبة    الرواية البصرية تصنع الهويات    ترجي مستغانم ووفاق سطيف أول المتأهلين لربع النهائي    مشروع مركز جديد للدفع والمراقبة    سارق هواتف مطلوب لدى 6 مصالح أمنية    حجز 2.5 كيلوغرام "كيف" و1050 قرص مهلوس    المواطنون الراغبون في أداء مناسك العمرة مدعوون لأخذ اللقاحات الموصى بها من طرف وزارة الصحة    صيدال: الاطلاق المقبل لمشروع انتاج المادة الأولية للعلاجات المضادة للسرطان    مهرجان الصورة المؤسساتية: تتويج 14 فيلما مؤسساتيا بجائزة أفضل الإبداعات السمعية البصرية في مجال الأفلام المؤسساتية    إبراهيموفيتش يكشف سبب رحيل بن ناصر    إبراز التراث الأدبي والديني للأمير عبد القادر    هذه ضوابط التفضيل بين الأبناء في العطية    مسلوق يتعهّد باحترام رزنامة المباريات    "أباو ن الظل".. بين التمسّك والتأثّر    إمام المسجد النبوي يحذّر من جعل الأولياء والصَّالحين واسطة مع اللَّه    الإذاعة الثقافية تبلغ الثلاثين    هذا موعد ترقّب هلال رمضان    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنساني مفرط في الإنسانية مع إضافتين
نشر في الجزائر نيوز يوم 27 - 05 - 2014

"إنساني، مفرط في الإنسانية" هو معلم لأزمة. إنه يعلن عن نفسه ككتاب للعقول الحرة: كل جملة فيه تقريبا تعبر عن انتصار.
عن طريقه تخلصت من كل ما هو غريب عن طبيعتي. غريبة عن طبيعتي هي المثالية، والعنوان يعلن: "حيثما ترون مثلا، أرى أمورا إنسانية، بل لا شيء غير أشياء مفرطة في الإنسانية!".. إن لي معرفة أفضل بالبشر - وعبارة "العقل الحر" لا يمكن أن تفهم هنا إلا بهذا المعنى: إنه عقل محرر قد استعاد تملكه بذاته. لقد حدث تغير تام في اللهجة وفي نبرة الكلام: سيجد المرء هذا الكتاب ثاقب الذكاء ورصينا، وفي بعض الأحيان قاسيا وساخرا. إن ضربا من "الرفعة الذهبية" ذات الذوق النبيل تظل تجاهد هنا على الدوام من أجل السيطرة على تيار الاندفاع الحماسي الذي يعتمل في الأعماق.
وفي هذا المضمار يغدو ذا دلالة أن تكون الذكرى المئوية لوفاة فولتير تعلة لصدور هذا الكتاب في سنة 1878. إذ أن أن فولتير، وخلافا لكل من كتب من بعده، يطل قبل كل شيء un grand seigneur - سيدا كبيرا في مجال الفكر: تماما مثلي أنا أيضا - اسم فولتير فوق كتاب لي، إنه فعلا لتقدم - باتجاه نفسي.. وإذا ما نظرنا إلى الأمر عن كثب، سنكتشف عقلا لا يرحم، يعرف كل المخابىء التي ينزوي إليها المثال، هناك حيث قلعة سجنه وملجؤه الآمن الأخير في الآن ذاته. مسلحا بشعلة في اليد، لا ذات نور مرتعش، تسلط ضوءا ساطعا على دهاليز ذلك العالم الخبيء للمثل. إنها الحرب، لكنها حرب دون بارود ودخان، دون هيئات قتالية، دون خطابة حماسية وتشنجات في الأعضاء - إذ ذلك كله سيكون بدوره "مثالية". بهدوء تجمد الأخطاء الواحد تلو الآخر، لا تدحض المثالية، بل يقع تجميدها.. هنا على سبيل المثال يتجمد "العبقري"، وفي المنعرج الموالي يتجمد "القديس". وتحت طبقة سميكة من الجليد يتثلج "البطل"، وفي النهاية تتثلج "العقيدة" وما يدعى ب "القناعة"، "الشفقة" أيضا تبرد بصفة ملحوظة - في كل مكان تقريبا يتثلج "الشيء في ذاته"..
تعود بدايات الكتاب إلى فترة احتفالات المهرجان الأول ببايرويت، إن شعورا عميقا بالغربة تجاه كل ما كان يدور من حولي آنذاك هو إحدى شروط تشكله. ومن لديه فكرة عن الرؤى التي كانت تتجلى لي في تلك الفترة، بإمكانه أن يحرز الإحساس الذي خالجني عندما استيقظت ذات يوم في بايرويت، تماما كما لو أنني كنت أحلم.. أين كنت إذا؟ لم أستطع أن أدرك أي شيء، وكان من الصعب علي التعرف على فاغنر من جديد. عبثا كنت أقلب صفحات ذاكرتي: تريبشن، جزيرة سعادة نائية: ولا ذرة من شبه ههنا. تلك الأيام الرائعة التي لا مثيل لها، أيام وضع حجر الأساس، وتلك الثلة من الأعضاء المحتفلة بذلك الحدث، والتي ليس فيها أحد ممن تنقصهم اليد الحساسة لكل المسائل الدقيقة: ولا ذرة من شبه مع هذا كله. ما الذي حدث؟ لقد وقعت ألمنة فاغنر!
وغدا الفاغنري سيدا على فاغنر! - الفن الألماني - المايسترو الألماني! البيرة الألمانية! أما نحن، الذين نعرف جيدا إلى أي نوع من الفنانين الراقين وإلى أي ذوق كسموبوليتي يتوجه فن فاغنر، فقط كنا نستشيط استياء لرؤيته ملفوفا في عباءة "الفضائل" الألمانية - أعتقد أنني أعرف الفاغنريين، لقد "عايشت: ثلاثة أجيال منهم، بدءا بالمرحوم برندل الذي يخلط بين فاغنر وهيغل، حتى "مثاليي" الصحف البايروتية الذين يخلطون بين فاغنر وأنفسهم - لقد استمعت إلى كل أنواع "شهادات" الأنفس السمحة اللطيفة حول فاغنر. مملكة لكلمة الفطنة! مجتمع يبعث على الذعر في الواقع! نوهل، وبوهل، وكوهل، وقس على ذلك من هذا الرهط إلى ما لا نهاية! كوكبة لا ينقصها نذل واحد، ولا حتى المعادي للسامية. - يا لفاغنر المسكين! أية منزلة أنزل نفسه! لو أنه قد سرح مع الخنازير على الأقل! لكن مع الألمان؟!... بالنهاية، من المفروض، خدمة لإفادة الأجيال اللاحقة، أن يقع تحنيط بايروتي حقيقي، لا بل من الأفضل أن يحفظ منفعا في روح الكحول "السبيرتوس"، ذلك أنه يفتقر إلى شيء من الروح على أية حال، ثم يرفق ذلك بيافطة تحمل عنوان: هذه عينة من "الروح" التي تأسس عليها "الرايخ"..
باختصار، قررت الرحيل فجأة وفي خضم هذه الأحداث، بالرغم من جهود المواساة التي بذلتها سيدة باريسية لطيفة تجاهي، معتذرا لفاغنر ذي طابع قدري.. وفي مكان قصي داخل غابات بوهيميا يدعي كلينغبرون رحت أجر معي كآبتي واحتقاري لكل ما هو ألماني مثل مرض، ومن حين لحين كنت أخط جملة في دفتر الجيب تحت عنوان جامع: "سكة المحراث" خواطر بسيكولوجية قاسية قد يجد المرء شيئا منها بعد في كتاب "إنساني مفرط في الإنسانية".
لم تكن القطيعة مع فاغنر هي الحسم الجوهري الذي حدث لدي في ذلك الحين. بل إنني شعرت بانحراف عام لغرائزي، لم تكن بعض الأخطاء الجزئية، سواء مما يحمل اسم فاغنر أو خطة الأستاذية ببازل، سوى أعراض لها طغى علي شعور بالضيق من نفسي، وكنت أشعر بأنه آن الأوان لكي أثوب إلى نفسي. فجأة بدا لي واضحا، وبطريقة تبعث على الذعر، كم من الوقت أنفقت هدرا، وبأية طريقة عقيمة ولا مبررة كانت مشاغلي الفيلولوجية تسترقني من مهمتي (الحقيقية) كنت خجولا من ذلك التواضع الكاذب.. وورائي عشر سنوات ظل غذاء الروح خلالها متوقفا لدي، حيث لم أتعلم شيئا مفيدا، ونسبت الكثير في خضم انشغالي الأحمق بذلك الركام من المعارف النظرية التي يغمرها الغبار، أدب بدقة نملة وببصر ضعيف بين العروضيين القدامى - إلى هنا بلغ بي الحال!- أشفقت على نفسي وأنا أراني نحيلا جدا وهزيلا جدا: كان زادي العلمي خاليا تماما من كل ما هو واقعي، و«المثاليات" لا طائل من ورائها! - استبد بي ظلما مثل اللهب: منذ ذلك الحين لم يعد لي من شاغل غير الفيزيولوجيا والطب والعلوم الطبيعية - حتى الدراسات التاريخية المحضة ذاتها لم أعد إليها إلا عندما كانت مهمتي العلمية تضطرني إليها اضطرارا. في ذلك الزمن بدأت أحدس العلاقة القائمة بين نشاط يختاره المرء ضد غريزته العميقة، ما يدعى "وظيفة" "Beruf" (*) وهو أبعد عما تدعو إليه المؤهلات الذاتية، وبين تلك الحاجة إلى تسكين حدة الخواء وجدب المشاعر بواسطة الفن المخدر، بواسطة الفن الفاغنري مثلا، إن نظرة ملقاة بحذر على ما يحيط بي جعلتني أكتشف أن عددا غير قليل من الشبان يعاني من مثل هذه الحالة الرثة: إن كل اغتصاب للطبيعة ينجر عنه حتما اغتصاب مماثل مواز وفي ألمانيا، في ظل الرايخ - كي نتلافى كل إمكانية للغموض - هنالك عدد كبير جدا من الشبان الذين يجدون أنفسهم مكرهين على اتخاذ قرارات سابقة لأوانها ليظلوا بقية حياتهم ينوءون تحت عبء لم يعد بالإمكان التخلص منه.. هؤلاء يتوقون إلى فاغنر كمن يطلب أفيونة - ينسون أنفسهم فيه، ويتخلصون للحظة من أنفسهم.. ما الذي أقوله! لخمس أو ست ساعات على أكثر تقدير!
في تلك الفترة اتخذت غريزتي قرارها القاطع ضد التمادي في الإذعان والمسايرة واشتباهي في هويتي أي نوع من الحياة، الظروف القاسية والمرض والفقر، كلها بدت لي أحب من ذلك "التنكر للذات" السلوك الرخيص الذي وقعت فيه عن جهل وطيش شباب في البداية، ثم بقيت حبيسا داخله في ما بعد بسبب الخمول، وبدعوى ما يزعم أنه "إحساس بالواجب" هنا هب لنجدتي في الوقت المناسب بالضبط وبطريقة لن أقدر أبدا على وصفها بالإعجاب الذي تستحق، ذلك الميراث السيء الذي انتقل ألي من أبي، ألا وهو التهيؤ لموت مبكر، سحبني المرض ببطء من ذلك المحيط: لقد وفر علي كل قطيعة وكل خطوة عنيفة وصادمة، لم أخسر في تلك الفترة أية رعاية، بل كسبت المزيد. منحني المرض في الآن ذاته الحق في تغيير كامل لكل عاداتي، كما سمح لي، بل أملى علي النسيان، ومنّ علي بوجوب ملازمة الفراش وبالعطالة والانتظار.. غير أن ذلك يعني التفكير! لقد وضعت عيناي لوحدهما حدا للانغماس في الكتب، أي في الفيلولوجيا: نجوت من "الكتاب"، ولسنوات عديدة، لم أقرأ أي شيء، كان ذلك أكبر إحسان قمت به تجاه نفسي على الإطلاق! - ذاتي العميقة التي ظلت طويلا شبه مطمورة، وشبه مندحرة إلى الصمت لكثرة ما كانت مرغمة على الاستماع إلى ذوات أخرى بدأت تستيقظ شيئا فشيئا، خجولة، غير واثقة، لكن ها هي تنطق من جديد! لم أتمتع في حياتي كلها بمثل ذلك القدر من السعادة التي كانت لدي في أيامي الأكثر سقما وأكثر آلاما: على المرء أن يلقي نظرة على "الفجر" أو على "المسافر وظله" مثلا كي يدرك معنى تلك "العودة إلى نفسي": "الشكل الأرقى للمعافاة!... ومن صلبها خرجت المعافاة الأخرى.
أهم ما جاء في "إنساني مفرط في الإنسانية" ذلك المعلم الذي يكرس تربية ذاتية صارمة استطعت بموجبها أن أضع حدا لكل ما تسرب إلي من "ترهات راقية" و«مثالية: و«أحاسيس نبيلة" وغيرها من الخنوثيات، تمت كتابته في سورينتي Sorrente، ثم ختم واتخذ هيأته النهائية في بازل ذات شتاء في ظروف أسوأ بكثير من تلك التي عرفتها في سورينتي. وفي الواقع إن بيتر غاست Peter Gast الذي كان يدرس بجامعة بازل آنذاك ويكن لي تعاطفا وودا كبيرين، هو الذي يتحمل مسؤولية هذا الكتاب. كنت أملي عليه معصوب الرأس لشدة آلام الصداع، وكان هو يكتب، ويصحح أيضا، لقد كان في الواقع هو الكاتب الحقيقي، بينما لم أكن سوى المؤلف لا غير.
وعندما وضع الكتاب أخيرا جاهزا بين يدي - الأمر الذي بدا مفاجأة كبرى لمريض مثلي - أرسلت، من ضمن ما أرسلت، نسختين إلى بارويت أيضا، وبمحض أعجوبة من تلك التي تتأتى عن صدفة ذات مدلول وصلتني في الوقت نفسه نسخة أنيقة من مؤلف بارسيفال مع إهداء من فاغنر "إلى صديقه العزيز فريدريش نشته. ريشارد فاغنر والمستشار الكنيسي" التقى الكتابان في الطريق، وكان لوقع لقائهما دوي غامض في ذهني. ألم يكن لذلك اللقاء وقع قرقعة سيفين قد تصالبا؟.. على أية حال فقد حصل لكلينا نفس هذا الإحساس، ثم كان صمت بيننا. في تلك الفترة صدرت الأعداد الأولى من "أوراق بارويت": أدركت عندئذ لأي شأن قد حان الوقت: - يا للغرابة! لقد أصبح فاغنر تقيا.
كيف كنت أفكر في نفسي آنذاك (1876) وبأي وثوق رهيب كنت متمسكا بمهمتي وبما تتضمنه من قيمة تاريخية كونية، كل ذلك يشهد به هذا الكتاب في مجمله، وبصفة أخص إحدى المقاطع ذات الدلالة الكبرى، إلا أنني هنا أيضا، ووفقا لتحايلي الغريزي المعهود قد تفاديت مرة أخرى استعمال عبارة "أنا"، لأغمر بهالة من المجد، لا شوبنهاور ولا فاغنر هذه المرة، بل أحد أصدقائي، وهو الدكتور باول ري Paul Ree الممتاز - وكان من حسن الحظ كائنا شديد اللباقة كي ما00 بينما كان آخرون أقل لباقة، كنت قادرا على تمييز الذين لا أمل فيهم من بين قرائي - الأستاذ الألماني النموذجي مثلا - من خلال كونهم يعتقدون أنه بإمكانهم، استنادا إلى هذا المقطع، تأويل الكتاب كله على أنه أرقى أنواع الواقعية.. وفي الحقيقة كان الكتاب يتضمن اعتراضا على خمس أو ست أطروحات لصديقي، وليعد القارىء إلى توطئة "جنيالوجيا الأخلاق" لمعاينة هذا الأمر وإليكم الآن المقطع المذكور: "ماهو القانون الأساسي الذي توصل إليه أحد المفكرين الأكثر جرأة وبرودة، وهو مؤلف كتاب "عن أصل المشاعر الأخلاقية" (أي: نيتشه، اللاأخلاقي الأول) وذلك بفضل تحليله الصارم والقاطع للسلوكات البشرية" "ليس الإنسان الأخلاقي أكثر قربا من عالم المعقولات من الإنسان المادي، إذ أنه ليس هنالك من عالم معقولات..." هذا المبدأ الذي اكتسب طابعه الصلب والقاطع تحت وقع الضربات المطرقية للمعرفة التاريخية: (أي: قلب كل القيم) قد يغدو ذات يوم، في زمن مستقبلي، ما - 1890! - الفأس التي ستستخدم لاجتثاث "الحاجة الميتافزيقية" للبشر من الجذور - إن لخير الإنسانية، أم للعنتها؟ من ترى بمستطاعه أن يجيب عن ذلك الآن؟ - غير أنه في كل الأحوال مبدأ ستكون له أرقى النتائج، مثمر ومرعب في الآن ذاته، يتفحص العالم بتلك النظرة المزدوجة التي تمتلكها كل العلوم الكبرى..
فريدريش نيتشه هذا هو الإنسان ترجمة: علي مصباح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.