مونديال في البرازيل بلد السامبا والكابويلا، بلد بيلي التاريخ ونيمار الحاضر.. احتجاجات تصاحب الاحتفال العالمي... ومباريات تناحرية طائفية في بلد الرافدين، ومعارك القبائل والمناطق في ليبيا... ومستقبل تلفه المجاهيل المرعبة ورحيل عالم المستقبليات المهدي المنجرة... تتجمع الأحداث وتتجيش الحشود لمناصرة فرق تلعب في مونديال مزدوج، مونديال مشهد تبثه القنوات ومونديال كواليس المضاربات والصفقات. هو الجسم الحاضر، حضورا يكتب الحضور والاحتضار... جسم يبدع في التمريرات والقذفات، وجسم ينتهك في الساحات والميادين، وجسم يحمل العلامات، يحملها في صور وكلمات على القميص أو في وشم يطبع على جزء من الجسم. هو بيزنس الأبدان، لاعب يجري في الملعب ويستثمر لتسويق بضاعة ما، هي اللعبة... هي الكرة. هي الكرة التي وصفها باحث فرنسي ب "التفاهة الأكثر جديّة"... هي اللعبة التي تجاوزت مستوى لعبة الاحتفال والابتهاج ، صارت لعبة أسهم ولعبة صياغات للمصائر ولعبة التفاف للاحتواء. هي اللعبة التي تنتج أيقوناتها بتراكم فمن ياشين وبيلي إلى كريستيانو وميسي ونيمار... وفي تعددية ما تنتجه، تعددية إحالات وتحويلات، تعددية استيهامات وتمثيلات وتمثلات... بيلي وماردونا وميسي أساطير لثلاثة أزمنة، كل منهم يختزل مساره مسارات ويفصح عن بيانات.. والميديا تعيد الصياغة وتختزل لتلخص المشاوير في مشاهد تصبح خطابات، فنطحة زيدان مثلا وظفت وتلقاها البعض منا بتباهي أنتجه نسق فحولة مزعومة نتستر بها على الأخطاء الذي تلبس بنا. لعبة صياغة للرمزيات بتنافسية محاور تسعى للتموقع، تنافسا يظهر في تعددية المدارس في اللعبة، مدرسة بريطانية ومدرسة برازيلية ومدرسة إيطالية وألمانية وإسبانية... كل مدرسة تحيل إلى بيئتها بكل خصائصها الأنثربولوجية والثقافية ودرجات نموها. هي لعبة المفارقات عولمة تتجلى في فرق ينسجها الصهر الخلاسي ونزعات مغالية في عنصريتها تترافق مع تمظهر عولمة تحمل في أحشائها جينات الشر المكتسح، اكتساحا هدس خرابات العالم. فريق كبرشلونة صار فريقا عالميا، فريق فيه لاعبين من بلدان مختلفة، يتحركون في الملعب كتجلي لعولمة، لكنها عولمة مخترقة برفض الآخر فلاعب البارصا البرازيلي داني ألفيز تعرض للرمي بموزة وهو فعل تذكير له بأصوله ولونه فالموزة صارت توظف لذلك التعبير كما جرى في فرنسا باستهداف وزيرة العدل كريستين توبيرا الرياضة التي تعتبر الكثر شعبية يجري بالبزنس سحبها من مجال المحرومين لإلحاقها بنوادي المترفين، فقناة الجزيرة الرياضية وظفت المال لاحتكار حقوق البث وأثار احتكارها الغضب في محيط يعمه فقراء لا يمتلكون القدرة على شراء بطاقات الاشتراك في القنوات المشفرة، وكما ورد في افتتاحية لموقع "رأي اليوم": "عوائد دولة قطر من الغاز والنفط تصل إلى أكثر من مئتي مليار دولار سنويا، ولا يزيد عدد سكانها عن ربع مليون نسمة، فلماذا لا تقدم السلطات القطرية على خطوة شجاعة وكريمة، وتسمع ببث جميع مباريات كأس العالم مجانا دون أي تشفير حتى لو ترتب على ذلك خسائر مالية؟ الغالبية الساحقة من المواطنين العرب يعيشون تحت خط الفقر أي بدخل لا يزيد عن دولارين في اليوم، ولا نعتقد أن هؤلاء يستطيعون دفع ثمن الاشتراك الذي تطلبه محطة "الجزيرة" الرياضية أو وكلاؤها ويصل إلى أكثر من مئة دولار في بعض الأحيان". هي انخراطات في هستيريا الحشود، في رقصة الانفلات الذي يتكثف، بتصاعد إيقاعات طفو ما هو كامن من هشاشة... هشاشة الانتماء وهشاشة الذات في مثلث ماسلو لعالم النفس ابراهام ماسلو تتحدد احتياجات الفرد بتسلسل هرمي، تبدأ من حاجيات مرتبطة بالفيزيولوجي ثم الأمني، وفي سورة قريش ربط بين الطعام والأمن، ثم الاحتياجات الاجتماعية فالحاجة إلى تقدير الذات ويتوج التسلسل بالحاجة إلى تحقيق الذات.. والاندفاع نحو الكرة مناصرة مرتبط بالبحث عن تقدير للذات، ذاتنا الجريحة والمنكسرة، وتلك الحاجة هي التي تدفع بعضنا إلى التغني المزمن بالفوز على ألمانيا في محاولة تمثل تفوقا.. كما أن حاجة تحقيق الذات في ظل التخلف المتعدد الأبعاد، يظل مرتبطا بالكرة، ارتباطا تحويليا بآليات التعويض الاستعاري، تعويضا ترتقي به مباريات إلى ما هو أهم من فتوحات ومعارك مصيرية.. ولقد ذكر أحد المعلقين على مقال يستعيد ما سمي بملحمة أم درمان بأن التغني بتلك المقابلة بصيغ كأنها غزوة بدر. هي اندفاع نفسي للتعويض عن الفقدان، للتغطية عن الخيبات، لافتعال جبر للكسر. هي التعويض الذي اختزل لنا الوطنية والانتماء في الهتاف للخضر وتذكر الراية لما يلعب اللاعبون الكرة وينتشي البعض بتصرفات كالتي عرفها ملعب جنيف مؤخرا أو ما عرفها ملعب فرنسي سابقا لما بدرت تصرفات منفلتة من الجمهور.. وزعم البعض عندنا أن ذلك تعبير عن الانتماء وافتخار بالوطن... فهل الوطنية تختزلها هستيريا الحشود؟ هي استيهامات واستلابات بمسارات الارتقاء، ففي ثمانينيات القرن الماضي كانت تردد عبارة: "هاجر ولا دير كي ماجر"... فنماذج كميسي أو نيمار أو كريستيانو تبهر وتغري. هي أسهم وصفقات ومضاربات وعمولات ورشاوى وأموال هائلة تتداول في صناعة طغت وأفقدت اللعبة الكثير من تدفقها، هي تعبير هوياتي في سياقات خاصة، والأندية تحيل في تشكلاتها ومساراتها، ففريق برشلونة حمل التعبير عن الخصوصية الكتالونية وكان الالتفاف حوله، تصديا لشمولية دكتاتورية بريمو دي ريفيرا والجنرال فرانكو.. وكان نادي الريال يحيل إلى النظام.وفي الجزائر تحمل فرق كثيرة اسم المولودية في إحالة إلى المولد وحضرت مفردة الإسلامي في بعض الأندية تعبيرا عن الخصوصية في الزمن الكولونيالي. انتصار الخضر على الفريق المصري في أم درمان تم اعتباره ضربة من الضربات التي تلقاها نظام مبارك قبل سقوطه، النظام الذي وظف الكرة كمخدر.ويعتبر البعض أن سقوط نظام فرانكو تم تدشينه بفوز برشلونة على الريال بنتيجة خمسة مقابل صفر في فيفري 1974. لنتذكر ألعاب موسكو الأولمبية في سنة 1980، ونذكر الاستعارات المتبادلة فالتواصل الأمريكي مع الصين حمل عنوان ديبلوماسية البينغ بونغ ويهتم بوتين بإظهار نفسه كرياضي في صور تتداولها المواقع. هي الكرة احتفال رائع ينقلب مروعا عندما تنقلب المعايير ويصبح صنيع القدم أساس وطنية وسيادة ومجد البلد... هي عطاء مهم عندما يعضد ما ينجزه الباقي، كل في مجاله مثلما كان دور رفاق مخلوفي في معركة التحرير. هي لعبة الانجاز الجماعي بروح الفريق وذلك ما نحتاجه في كل مجال... هي لعبة تدار بقواعد الماركتينغ وتقنيات المناجمنت وآليات الإدارة السياسية والتوجيه الديبلوماسي... هي لعب بالجدي وليس بالعبث وبانهزامية من يقتنعون بمنطق المهم المشاركة. واللعبة تصبح رائعة في بلدان تعرف رقيا وتقدما في مختلف المجالات.. لأنه في بيئات متخلفة، تتحول الكرة إلى مخدر ويصبح ضررها أكثر من نفعها قياسا على الأشارة القرآنية لما يتصل بالخمر... منجز القدم يهندس الروعة عندما يكون لمنجز العقل اعتباره.هي لعبة المفارقات، محنة تنتجها لقاءات تنتهي بالدم والقطيعة والفتنة كالتي جمعتنا مع المصريين، وإبهار ممتع في مباريات الدوري الإسباني مثلا، إبهارا بالإبداع الفني الممتع بتوقيعات أمثال ميسي وكريستيانو... الإبهار متحقق بما يمتد وذلك موضوع يتطلب وقفة أخرى.