ينبغي أولا أن نوضح جزئية وردت في العنوان قبل الخوض في موضوع قصيدة الشاعر المجهول والمنسوب الى "بلاد أولاد نايل". فعندما نلجأ الى استعمال مصطلح "بلاد أولاد نايل" فهذا ليس حصرا لمنطقة وقبائل وعروش بأكملها في قبيلة واحدة اسمها "اولاد نايل". وإنما هو مصطلح جغرافي استخدم منذ سنة 1724 أو ربما قبل ذلك بكثير. فهذه خريطة الرحال الإنكليزي "توماس شو" تسمي البلاد الواقعة جنوب التيطري وراء منطقة التل باسم "أولاد نايل" و"أولاد مليك" وهم فرع من أولاد نايل. وهذا الرحالة الجزائري "التنيلاني" سنة 1816 يمر بالمنطقة ويسمي أهلها بأولاد نايل ويضع لأرضهم حدودا بين "قسنطينة والجزائر وتقرت وبوسعادة وورقلة وبني ميزاب والقرارة". ولهذا نقول مرة أخرى أن استخدام "بلاد أولاد نايل" هو استخدام بدلالة جغرافية تحيل على عروش " رحمان والعبازيز وأولاد نايل وأولاد بن علية والمويعدات والسحاري و الأحداب وأولاد زيد وغيرهم من الأعراش التي شكلت ما سمّاه الرحالة الفرنسي "لويس بياس" باسم "كونفيدرالية أولاد نايل" أي "اتحاد أولاد نايل". وبعد، فقد حملني على جمع ما أتيح لي من الأشعار الشعبية من بلادنا كونها أشعار غنية من ناحية المدونة اللفظية التي تكاد تندثر في عصرنا من جهة، ومن جهة أخرى ثراؤها بالقيم الإجتماعية والتراثية والتاريخية وكذا المستوى العالي في التصوير الفني الذي وصل اليه أسلافنا من الشعراء. فكان لابد من تدوين هذه الأعمال الأدبية التي تعتبر تجارب انسانية خالصة في المكان والزمان والأسلوب واللغة سعت الى التعبير عن مشاعر جاشت بها أفئدة من كتبوها. فضلا عن كل ذلك فإن هناك تراثا شعريا زاخرا صار مهددا بالإندثار ولابد لنا من دق ناقوس الخطر لكي نسارع الى جمعه لأن الشعر الشعبي يكاد يكون في بعض فترات تاريخنا المصدر الوحيد للتأريخ اضافة الى الروايات الشعبية. وعلى سبيل المثال كان كبار عرش "أولاد أم الإخوة" يحفظون قصيدة قيلت بعد المقاومة التي قادها أجدادهم ضد فرنسا في أكتوبر من سنة 1854 وقيل أن القصيدة كانت تصف حال "أولاد أم الإخوة" بعد المطاردة التي تعرضوا لها من طرف الجيوش الفرنسية بعد أن قاوموها بشراسة وأثخنوا الجراح حتى في ضباط الجيش الفرنسي مثل "Boisguilbert" الذي سُمي باسمه اكبر شارع بمدينة الجلفة حينها (شارع الامير عبد القادر حاليا). وللأسف لم يبق من تلك القصيدة التاريخية سوى بيتان شعريان دونهما الباحث "حامدي المختار" في الكتيب الذي أصدره عن تلك المقاومة الشعبية. والقصيدة التي بين يدينا اليوم رُويت لنا عن شاعر مجهول عاش قبل بدايات القرن العشرين. فقمت بتدوينها انقاذا لها من طي النسيان خصوصا وأنها قد ناهزت اثني عشر بيتا ولعلها أطول من ذلك. وقد وصلتنا عبر الذاكرة الشعبية دون أن تحفظ لنا اسم قائلها. وربما سيكون نشر هذه القصائد باعثا على التواصل مع من حازوا علما بهذه الأشعار فيُصوبوا لنا ما نقلناه أو يتمموه أو يخبرونا باسم قائل هذه الأبيات. فالشعر الشعبي يُحسب له أنه حفظ لنا ذلك التراث الزاخر بالمفردات وبالصور الوجدانية لما عاشه أجدادنا. والقصيدة التي سنراها هنا تجسد قدرة فائقة على التشبيه والتصوير حيث يجنح شاعرنا المجهول الى الاقتباس من محيطه. فتارة يستعين بوصف قوة حصانه وجموحه للتعبير عن شوقه الى قوة شبابه. وتارة أخرى يستعيض بالزرع حين "يتغاني" أو ب "السلوقي" وهو أنبل الكلاب وكسبها كان مدعاة فخر في سرعته أثناء خرجات الصيد. كما تعكس هذه الأبيات بعض الصيغ اللغوية على غرار ادغام الحروف التي هي من نفس المخرج في قوله "يطَّهْلَلْ-يْتْطَهْلَلْ، اسَّهْزَلْ-استهزل، اسّذْبَلْ-استذبل". وهذا الحال الذي آل اليه شاعرنا هو نتيجة مرض الهوى فيبدأ مطلع قصيدته بياء الندبة في قوله "يا لجّي" وكأن فؤاده قد صار بحرا لجّيا عميقا متلاطمة أمواجه وهو اقتباس من النص القرآني. وهو ما يحيل على فصاحة عرب المنطقة التي ينتمي اليها الشاعر وهي قيمة ثقافية تدل على اللغة التي كانت سائدة آنذاك والتي قال فيها المؤرخ الفرنسي ارنست لافايس في كتابه "التاريخ العام من القرن الرابع الى يومنا هذا"{يشتهرون بنقاء لغتهم و سحرها} في وصفه لبلاد أولاد نايل. ثم ينحو الشاعر نحو العرب في الاستعانة بالتشبيه من أحوال الفروسية والصيد وهو ما يدل على التمسك بهاتين الهواتين العريقتين في التراث العربي. وفيما يلي نترككم مع نص القصيدة للشاعر المجهول ... عسى أن يكون نصها باعثا لاستنهاض الهمم لتدوين أشعارنا وتراثنا وباعثا على التدوين الذي يبقى الكفيل بالحفاظ على هويتنا العربية وتأصيلها. ملحوظة: يجب الأخذ بعين الاعتبار أن حرف القاف المكتوب هو في الأصل حرف الغين والحرف الدخيل "ڤ" هو القاف مع بعض الاستثناءات النص: يَا لَجِّي مَرْضْ الهوى عنِّي طَوَّلْ ... وجرحْ مْقَوَّرْ(1) ما لْڤيْنَالو دَلَّالْ ساكنْ ڤلبي في الفْرِيسَة مجَّوّلْ ... ومهْمُومْ من الكِيفْ زَادُو دَركْ هْبالْ نَدَّهْنا حَيْفْ(2) الوْطَايَة(3) ڤاعْ اُكُّلْ ... وندّهْنا عَرْبْ الزْوَايَاتْ ولَوْطَانْ قَرْبْ وشَرْڤ وناسْ ڤبْلَة واهلْ التَّلْ ... بلِّي ڤيْطَنْ في بْلادو بلّي جَالْ منْ عَوّالَة لِيكْ من حوّى وادْمْ ... بلّي(4) ماتْ وحَيْ في الدنْيَا مزّالْ بلّي َجَايْحْ في كْلامُو متْبَهْلَلْ ... ولاَّ الحاذڤ ما يْضَيَّعْ رَاسْ خْلاَلْ (5) عَوْدي كان جْمَامْ(6) بِيَّا يطَّهْلَلْ(7) ... ومْرَفَّعْ لَحْم الكْفْلْ(8) ساڤو(9) يَكْمَالْ بعدمَّا لَحْڤو المُشْحَاطْ(10) اسَّهْزَلْ(11) ... وشُعْرَانُو(12) سَكْنْ الدْوَاخْلْ في لَظْلاَلْ(13) زَرْعِي كانْ فْريكْ يَتْقَانَى(14) سَبَّلْ ... مَطْلُوڤالُو ساڤيَة مَصْرَفْ(15) سَيَّالْ تْكَسْرتْ سَاڤِيتُو تْلَوَّى و اسّذْبَلْ(16) ... دَرْكوهْ ايّامْ الصْمَايْمْ فَاتْ الحَالْ سْلوڤِيَّا كان والْعْ يتْنَڤلْ ... عَيْنو راها ماضْيَة مُنْيَبْ(17) ڤتَّالْ تْبَقَى بيْنَ الكْوَانِينْ مْحَرَّڤ ... وْجَاحْ وْبَلْهَث مَا بْقَى في الصَّيْدْ يْنَالْ شرح الكلمات الصعبة: -(1) مقَوَّرْ أو مْغَوَّرْ = جرح غائر -(2) حيفْ = أي نحو، جهة -(3) الوطاية = منطقة من أرض أولاد نايل الشراڤة، حاليا بغرب بسكرة -(4) بلّي= بالذي -(5) خْلاَلْ = عمود مدبب -(6) جْمَامْ = صغير السن -(7) يتطهلل = يتباهى -(8) الكفل = الردف و هو مؤخرة الفرس -(9) ساڤو او ساقو = سَاقه -(10) المشحاط = الشطرڤ= السُّوط -(11) اسّهْزَلْ او استهزل = هَزُلَ وضَعُفَ حاله -(12) شُعْرَانُو = واحدتها الشعرانة وهي الحشرة التي تصيب الخيل -(13) لَظْلالْ = الظِلالْ و هي الاماكن المظلة في فرسه(المناخير والعينين والأذنين والابط والمؤخرة) -(14) يتْقَانَا او يتْغَانَا = يَتَغَنّى -(15) مصرف = قناة لصرف الماء -(16) اسّذْبَلْ أو استذْبَلْ = ذَبُلَ -(17) منْيبْ = ذو ناب