كتاب "جزائر الغد" من مقالات الشيخ عبد الحفيظ القاسمي الحسني (جمْع وإعْداد الباحث: أنس هِشام القاسمي الحسني) بسم الله الرحمن الرحيم عندما فكرت أن اكتب عن الشيخ عبد الحفيظ القاسمي، تأثرت كثيرًا قبل أن أكتب، وشدّتني صِفَاته وقدُراته ونشاطه العلمي الدؤوب، في حدائق الثقافة العربية، وقلت لماذا لا أكتب..؟ وكتبت وفي القلب مجموعة مشاعر وأحاسيس، جرفتني إلى الماضي، ورُحت أقلب أدْراج الذاكرة (راجع جريدة الحوار 18-05-2011 ، اصوات الشمال 18-05-2011) ونحن بذلك نقصدُ خدمة الثقافة العربية، والتعريف برمز من رموزها، وحلمي أنَّ باحثا أو كاتبا جريئا من الأبناء البررة سيجيب عن أسئلتنا المُحيرة..أين أعمال الشيخ..؟ وحدسي كان صادقا، أجاب الأستاذ الباحث والكاتب: أنس هشام القاسمي الحسني عليه الرحمة، بما أثلج الصدور وكتب (..جزائر الغد..) فجزاه الله عنا خيرا، وها أنذا أقدّم الكِتاب للقرّاء الأفاضل.راجيا منهم اقتناءه وقراءته بتمعن، مع إيجاد العذر لنا عِند وجُود التقصير..والكتاب يشتمل على محاور ثلاثة هي: 1- الشيخ عبد الحفيظ القاسمي الحسني عالما ومُصلحا والقارئ للكتاب (بين يديي) يكتشف أنّ أعْمال الشيخ ومواقفه الجريئة، تجعله في مصاف الكبار..أجل.. إنه عالم جليل، ومُفكر كبير، وكاتبٌ مُفوّه، ومُصلح أثار قضايا فكريّة وتربوبة ذات عُمق حضاري وبُعد إنساني، أخذ بعنان قلمه في طريق شاق وعر، لم يقتصر نشاطهُ على الحقل الثقافي والتربوي الاصلاحي فحسب، بل تعداه إلى عالم الصحافة، ولعل ما يُلفت انتباهك وأنت تتصفحُ الكتاب (جزائر الغد..) يلفك الشوْق ويسكنك الحنين، وتسْعدُ بما تقرأ، ولله در أنس هشام القاسمي.. فقد بذل جُهدًا يستحق التقدير والإعجاب.. فكان كتابه تحْفة، من حيث إلاخراج الجيد، والمنهجيّة الواضحة، والأسلوب الشيّق، واللغة العذبة الراقية، اختار مقالات الشيخ عبد الحفيظ من بساتينه أزهارًا، ولكل زهرة لوْنٌ مُميز ورائحة ذكيّة، غاص في أدغالها، تحليلا وشرْحا وتعليقا، وقدّمها إلى القراء على طبق من ذهب، وفق مُقاربة جذابة..حيث سلط الأضواء على الجُهد الذي بذله الشيخ، والنظرة الاسْتشرافيّة التي تميّز بها في كتاباته، ذاتُ البعد الحضاري والاجتماعي والسياسي، هذه المقالات أنجزت في ظل الحصار المشدّد على الثقافة العربية الاسلامية يومئذ، من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي وإدارته الآثمة، تلك التي قيّدت حريّة الجزائريين في التعبير والكتابة.. الشيخ عليه شآبيب الرّحمة والرضوان، لم يبق مُتفرجا بل اخترق الطوْق بذكاء، واستطاع أن يُبلغ رسالته الاصلاحيّة الواعدة بوفاءٍ، ويُعالج بصدق وإخلاص قضايا الأمّة الجزائرية، يوم أن كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار وجبرُوته، تناول القضايا بعُمق وبدقة مُتناهية الطرح، قال إن المُجتمع الجزائري تخلف عن ركب الرُّقي لأسباب كثيرة، ومن بينها التهميش الذي طال علماء الجزائرعهدئذ ومفكريها، ثم سلبيّة االمثقفين أنفسهم وسكوت العلماء، ويرى أنَّ في طرح الشيخ تشابهٌ بين الأمْس واليوم، يكاد يكون مُتطابقا، وأن الاصلاحات لم تؤتي أكلها، والسبب عجز الجزائريين من الاستفادة من مُفكريهم، ومن تجارب غيْرهم، وعدَم الانصات إلى توْجيهات المُصلحين والمفكرين..أولئك الذين ازاحتهم فرنسا عن المشهد السياسي، وللأسف الجزائر لم تستثمر في فكر علمائها، أمثال الشيخ عبد الحفيظ القاسمي وصديقه المفكر مالك بن نبي، وأمثالهم من المُفكرين الأفذاذ كثرٌ، عشية الاستقلال استنجَدُوا بالفكر الاشتراكي المُفلس، ولم يراوحُوا مكانهم من التخلف، الشيخ عبد الحفيظ دعا في ثلاثينات القرن الماضي إلى بناء المؤسسات، على قواعد علمية ثابتة، وبقيّم أصيله، ومرجعية دينية صلبة، شعارُها التغير والاسْتثمار، وهو الذي بادر بالقول بالاستثمار في الإنسان وقال: علينا أنْ نستفيد من تجْربة إنسان الأمْس، ونعْتمد على وعْي إنسَان اليوم، ونعوِّل على إنسَان الغد، وهو مَافتئ يدعو إلى إنسانية الانسان. 2- نشأة جريدة الرشاد: وإذا كان الشيخ عبد الحفيظ القاسمي، من جهابذة العلماء العاملين المُصلحين..فإنه كان كاتبا لامعا، ومفكرًا عميق الفكرة، يسْبح خياله في شتى الأفكار المُضيئة، والتصورات المفيدة، وهو يكتب بوعي واقتدار، شاعر موهوب (وله ديوان شذى الياسمين) ولغوي مُتمكنٌ، ورجل دين بامتياز، إلى جانب ذلك فهو مُربي ومُصلح وداعية، ولوعًا بعالم الصحافة، وبالفكر التصوُفي، وهو رحالة...وٍرغم تقييد الحريات، وتكميم الأفواه إلى أن ذلك لم يثن من عزيمته، فقد بادر إلى تأسيس..جريدة الرشاد، لتكون لسان حال جامعة اتحاد الزوايا والطرق الصوفية، وكان مُديرها (16.05.1935—13.11.1939) والتي توقفت عند العدد: 56.. كانت تجربة بحق اعلامية رائدة، جديرة بالثناء والتقدير، ولما وقع الحضر على الصحف، بحث الشيخ له عن فضاءٍ آخر لايقل أهميّة عن عالم الصحافة، التعليم وخدمة الأجيال، واهتدى بتوفيق من الله إلى ضالته ..ففي عام 1959 اسّس مدرسة (النجاح ) في البيرين، التي استقطبت الكثير من الطلبة وكانت ملاذهم الآمن. إن الاستاذ الباحث أنس هشام القاسمي، وفي اطار بحوثه القيمة الهادفة، وقراءاته المتفحصة لكتب مَشايخ زاوية الهامل العامرة، صدر له كتاب (جزائر الغد) وهو من الحجم المتوسط، يشتمل على 111 صفحة، بتضبير جيد، وغلاف سميك، وإخراج رائع، وورق مصقول، وتشكيل مُتناهي الدقة للكلمات والعبارت، يشتمل الكتاب على: الشكر والعرفان..ثم اهداء إلى المشائخ وإلى أهل البيرين.. فمدخل مُختصر.. ثم تقديم بقلم : الدكتورة عواطف قاسمي الحسني.. والذي ابحرت فيه بقلمها الرائع بين تضاريس مَضامين الكتاب، وأخرجت نفائس دُرَرِه، واشادت بجُهد المُؤلف، كان التقديم رائعًا، وطريقة التناول مُشوّقة وذكيّة. والكاتب الباحث أنيس هشام، تناول حياة الشيخ عبد الحفيظ القاسمي، وأولى عناية كبيرة لمراحل حياته، مولده (1914) ونشأته في أحضان المدرسة العريقة، وملازمته العلماء والمشايخ، وكانت له حلاقات يديرها..عرف بمكانته العلميّة وتكوينه الناضج، ومواقفه الانسانيّة والوطنية، حياة عامرة بالنشاط والحيوية والإصلاح. ومُساهمة مُوفقة في تصحيح المفاهيم الخاطئة، ودرسات جديرة بالاهتمام، كانت مدرسة النجاح التي أسسها، قمّة في الوفاء لإصلاح تربوي رامه ودعا إليه، وهي ثمرة من ثمار جهده وجهاده..وفي مايلي استعراض وجيز لعناوين مقالات الشيخ التي جمعها الكاتب، ولابد أن تقرأ وتنشر، لأنها مقالات رفيعة المستوى حبلى بالحقائق. 3- مقالات الشيخ: وتمتاز هذه المقالات، التي نشرت على صفحات جريدة الرشاد بغزارة اللغة، وعُمق المعاني والأفكار، ومتانة ألأسلوب، ودسُومة المادة، والكاتِبُ أدْرَج في كتابه خمسة عشرة 15 مقالا هي: 1- مهنة الصحافة وأثرها: أشار فيها إلى أهمية الصحافة في القديم والحديث، ويقول: أنها كانت مُهمة شريفة، لنبل وشرف رجالاتها، والصحافة تقوّم المعوج، وتشفي العليل، وتزْرع أرْكان الحياة، ويُحذر من حُب الذات والترويج للمفاسد. 2-المشاريع والأغراض: المشاريع من صفة المدنية الحديثة، والأغراض وجدت مُنذ أن وُجد الإنسان ويقول: بأن الزوايا العلمية. كانت ومازالت مشاريع إسلامية ويدعوها لأن تكون مُتطوّرة موحّدة، لرد غاراة المشوشين، ومشروع الزوايا لم يؤسس لأجل السياسة، فالسياسة والدين متناقضتان. 3- ماهو الدواء الناجع لصالح المجتمع الديني..؟ ومن خلال هذا السؤال يتبادره الذهن لأول مرة أنه بسيط، ويرى بأن عِليّة القوم، وأفاضل المفكرين، قد صرفوا عنان الفكر إلى وجهة أخرى، ولم يولوا وجوههم شطره (الدواء) او العلاج، وقد اصابوا كبد الحقيقة، بالبحث عن الدواء لصالح المجتمع، الديني، وبإمكانهم أن يفعلوا شيئا إن عرفوا الفرق بين ما يُنكر وما لا ينكر، والعلاج الحقيقي أن يقوم العلماء بواجبهم التربوي والارْشادى التوْعوي، وهذا إن حصل لهم الفرق بين المنكر والمعروف لمعرفة مراتب التغيير. 4- قوّة الشباب بقوّة إيمانه: ويرى بأنّ أهمّ عناصر القوة في هذه الحياة قوّة الشباب بمختلف المشاعر والأحاسيس المدعومة بحكمة الشيوخ، وتجاربهم والتعاليم الدينية، والأساليب التربوية العلمية. 5 - شباب الجزائر الحديث أو رجال العهد الجديد: لايعني المتنطعين الذين استولى عليهم شيطان الغرور والتطرف والأنانية وحُب الظهور، بل يعني رجال الوقت ورجال العهد الجديد، الذين سيتقلدون زمام القيادة الدينية والسياسة. 6- كيف كان مدلول العلم وكيف عاد؟ يقول: لم يعد الشباب يهمهم التحصيل العلمي بقدر ماتهمهم المظاهر، وإن ما ينفع البلاد معنويا وماديا هم العلماء العاملين الذين جمعوا بين العلم الصحيح والتربية الصالحة والتهذيب. 7- أسوأ النتائج للتعليم الناقص: والتعليم الناقص هو الذي يعتمد على الذاكرة دُون الاهتمام بالفكر والعقل، ولايُراعي مستقبل الأجيال في الصناعة والزراعة والصحة. 8- الصناعة في حياة الأمة: هي سُلم الرقي وهي التمدن البشري، ولذلك فهي جديرة بالاهتمام، والتربية العلمية التطبيقية اساسيّة وضروريّة. 9- تجويد الانتاج وتوفيره: ومَن المطالب به من أفراد الأمة: العبرة بالنوعية لابالكم، وينبغي أن يبادر قادة الرأي العام إلى تجويد وتحسين أساليب النهوض بالبلاد. 10 - العمل هو رأس التوكل: فهو بلا منازع قوام الحياة وسُلم النجاة، وإن ركون بعض الكسالى إلى الرّاحة والخلود، وإلى الاستراحة، ضعف وتخلف واستكانة. 11- حول الأزمة الاقتصادية (كاد الفقر أن يكون كفرا): كانت الأزمات والمجاعات التي اكتوى بنارها المسلمون امتحانا عسيرا، وفي الجزائر لم يكونوا مُستعدين لمُجابهة هذه الأزمات والمجاعات لأنهم مُتواكلون. 12-التعاون والاجتماع: نظام التعاون فيه قوة ومناعة، وهو أظهر مظاهره الصفات ألإنسانية، وهو الرغبة في حياة الاطمئنان والسلام ويفضي إلى الحياة المرنة. 13- الانسان وكماليته: الانسان قابل لكل كمال في دائرة نوعيته ومهيأ لكل ما يخرجه من الحيوانية الناقصة إلى الحيوانية الكاملة، اذا استعمل عقله وعلمه واجتهد. 14- الإنسان وكماليته: فالإنسان بالعلم ينتصر، و يقوم بتسيير النظم واصلاح الشؤون، وبالعلم تتفاوت أنواع الانسان قوّة وضعفا، شرفا وخسة.ويقول أن الجاهل بالشيء لا يعطيه أهمية. 15- لمن تقدر الشهرة والخلود؟ : (أليست لهذه البشرية وناشري الانسانية...؟) والشهرة غاية كل نفس مملوءة حيوية ولذلك رجال العلم ذكرهم خالد، بخلود أثر أعماهم.. الخلاصة: قد يبدو للبعض أنّ ما قلناه عن الشيخ مُثيرٌ للأعْجاب والحيْرة ولربما فيه مبالغة، وهم في ذلك معذورون، لأنّهم لم يطلعوا على أعمال الشيخ الكثيرة، وأعمال المفكرين أمثاله، الذين أزيحوا على المشهد الثقافي وغُيّبوا، فلم يُسعفهم الحظ في تصفح أعمال بعض الرّموز والأقلام، التي أبعدها التهميش من قبل، وتجاهلها المُتجاهلون من بعد، وهل يُعقل أنّ نصوصا بحجم أعمال الشيخ عبد الحفيظ، القامة السامِقة والمجاهد الأبر، لاتكون في مُتناول طلبتنا؟ إنّها لأحدى الكبر، فالتذكير بهؤلا يثير في النفس كوامن الإقتداء، فأجمل ماكتب الشيخ لم يقرأ بعد، ولم تلتفت إليه وزارة التربية، ولا النقاد والمثقفون.!.الكاتب طاف بنا في نهر جميل، عذب ماؤهُ، ورصد لنا كنوزًا تنامُ في أعْمَاقه... كان الله في العون.. ملحوظة : في ذات اليوم قدمت ملخصا لهذه القراءة في قناة القرآن الكريم بتنشيط الاعلامية المتميزة "صالحي آمنة"، مع التركيز على المحاور التالية: سيرة الرجل، مقالاته، رسالة جيل اليوم...