لقد أخذت الثورة التي اندلعت في الفاتح من نوفمبر 1954 تنتشر عبر جميع أنحاء الوطن حتى شملت كل مناطق البلاد، وباتساع نطاقها أصبح الأمر يستدعي تكثيف الاتصالات بين قادة الجبهة والجيش في مختلف المناطق، وذلك من اجل تنسيق الأعمال وتنفيذ الأوامر والاطلاع على أوضاع العدو. كما عمقت الثورة بُعدها الثوري في عملها الميداني عن طريق انتشارها وتوسّعها بإيمان الشعب بها، خاصة بعد عمليات 20 اوت 1955 التي قذفت بالثورة إلى الشعب التي تبناه دون تحفظ واستقبل الاستشهاد الأعزل، من أجل رسالتها، واظهر هذا الهجوم كذلك مدى شعبية الثورة والتحامها وبعدها المغاربي، وبيّن للعالم أن ما يجري في الجزائر ثورة تحريرية حضارية وليست تمرد او عصيان كما كانت تدعي السلطات الفرنسية. من خلال ما ذكر ندرك أن هذه العمليات لم تولد من رحم الأزمة فقط، بل كانت نقطة تحول في المجتمع الذي آمن بالثورة التي لامناص له إلا بها والتي أصبحت سبيلا وحيدا للحرية من مستعمر جثم على صدور الشعب الجزائري طيلة قرن وأكثر، ولعل هذه العمليات كانت السبيل الأوحد لإيصال رسالة للعدو الفرنسي بان الثورة لم تكن ثورة جوع أو ثورة قطّاع طرق بل كانت ثورة ملحمية جسدتها عمليات 20 اوت 1955 والتي أصبحت معلما للنضال والجهاد. ذلك العمل الميداني حتّم على الثورة القيام بعمل تنظيمي وتقني، ليعطي المفهوم الفلسفي للثورة ولأنها أصبحت واقعا دوليا يحظى بالتأييد والمساندة والعطف والإعجاب، فجاء مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، ليخرج بنظام جديد للثورة على المستوى الداخلي أو الخارجي، بتحديد قيادة وطنية، وإنشاء هيئات، منها الإذاعة السرية لرعاية ونشر البعد الثوري والمغربي الوطني لها عن طريق ميثاق ثوري رسم الإستراتيجية المستقبلية للثورة. تأسيسها أمام الدعاية الإعلامية المعادية التي كانت تذاع على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام الضخمة الفرنسية باستخدام وسائل تقنية قوية، أصبح من الضروري إسماع الشعب صوت جبهة التحرير الوطني، إلى غاية 1956، كان برنامج صوت العرب من القاهرة، يسمح للسكان بالهروب من التسلط اليومي لإذاعة الاحتلال، ولكن في معركة تلعب فيها الدعاية دورا خطيرا في التدمير والتسميم وتقويض الاستقرار، لاشيء بإمكانه تعويض حصة وطنية تبثها جبهة التحرير الوطني بنفسها، لم يكن ينقص سوى مرتكزات. يضاف إلى ذلك أن جبهة التحرير الوطني كانت تعتمد على وسيلة كتابية منذ 1955 هي جريدة المقاومة التي حولت بعد وقت إلى يومية تحمل عنوان "المجاهد" ووسيلة شفهية على شكل محطة إرسال موجودة بالحدود الجزائرية المغربية بمبادرة من العقيد بوصوف. ظهرت الحاجة إلى إنشاء إذاعة جزائرية يصل بثها إلى كامل التراب الوطني بعد تطور أحداث الثورة، حيث قرر قادتها في مؤتمر الصومام إنشاء إذاعة جزائرية خاصة بالثورة، و هذا ما حدث فعلا في 1956.12.16 أين تم انطلاق "صوت الجزائر الحرة المكافحة" مدويا من إذاعة وطنية ثورية تحت شعار "صوت الجزائر الحرة المستقلة المكافحة من قلب الجزائر". كانت هذه الإذاعة عبارة عن شاحنة كبيرة من النوع GMC تحمل جهاز إرسال RC 399 قوته 400 واط وجهاز تسجيل الصوت و جهاز ميكروفون و جهاز مزج الموسيقي و عموديين بالنسبة للهوائي و مولد للكهرباء تجرّه شاحنة و تنتقل من مكان إلى آخر، أما برامجها فكانت تبث على الهواء مباشرة عبر موجة قصيرة طوليا 25 متر لمدة ساعتين كل يوم باللغة العربية و القبائلية و اللغة الفرنسية ابتداء من الساعة الثامنة ليلا. و يعود الفضل في الحصول على الشاحنة و ما فيها من معدات إلى "رشيد كازا" المدعو "مسعود زقار" الذي تمكن من الحصول على جهاز إرسال متطور يستعمل في تجهيز البواخر، و أدخل عليه بعض التعديلات وأصبح يستخدم في البث الإذاعي لصوت الجزائر، و يعود الفضل بعد ذلك في إنجاز هذه الإذاعة بعد الحصول على الوسائل الأولية لكل من " بلعيد عبد السلام ، عبد المجيد مزيان ، رشيد كازا ، مداني حواس ، موسى صدار ، عيسى قوار محمد القردو". جهود الولاية الخامسة في تأسيس الإذاعة السرية من جانبه العقيد سي عبد الحفيظ بوصوف، المدعو سي المبروك، الذي كان يقود الولاية الخامسة فكر في وضع مختلف وسائل الاتصال، نظرا للمسافات الشاسعة التي كانت تفصل بين الولايات والمناطق والنواحي وقيادة الأركان حيث أصبحت من الصعب جدا لعون الاتصال أن يؤدي مهمة الاتصالات، وإذن فان مهمة الاتصالات كانت مسألة هامة، رغم المشاكل التي كان لابد من تجاوزها : المعدات، تكوين الأعوان، وضع الشبكة وتنشيطها بمحيط مضطرب. وقد كان لظهور جهاز الاتصال السلكي واللاسلكي سنة 1956 الأثر الايجابي في مسار الكفاح المسلح مما أدى إلى نضوج فكرة إنشاء إذاعة وطنية لدى المسؤولين في الثورة، ونجد في مقدمة هؤلاء عبد الحفيظ بوصوف الذي كلف رفيقه سي صدار في افريل 1956 بالذهاب إلى وجدة للبحث عن جهاز الراديو ذي التقنية العالية، للبدء في التنصت على العدو، وفي هذا الصدد يذكر موسى صدار بان " تواجد القواعد الأمريكية على التراب المغربي سهل لنا الحصول على أجهزة المواصلات، ولتكوين الإذاعة فقد حصلنا على جهازين حديثين، من نوع ( أ ن ر ج د 38) وذلك في آخر أكتوبر 1956 عندما أمرني سي المبروك مع عمر بمحاولة إنشاء إذاعة الوحدات الكبيرة للجيوش، لا تزيد طاقتها عن 400 واط، وقد قلت لسي المبروك وبومدين بان هناك إمكانية تكوين إذاعة بواسطة الجهاز المعني، ثم أمر سي المبروك فحمل الجهاز إلى المنطقة الشمالية بقرب من الحدود التي كانت خاضعة لاسبانيا وذلك للابتعاد عن أعين فرنسا ، وعين الأخ محفوظ مسؤولا عن ذلك المركز ومعه بعض الإخوة منهم الأخ قوار عبد المجيد المدعو عيسى، وكذا الأخ عبد القادر عاشور، وشناف عبد الكريم، وبعد أسبوع التحقت أنا وعمر بالمركز وانطلقنا في التجارب ابتداء من شهر نوفمبر واستمرت مدة شهر". وعلى اثر اجتماع تنسيقي بين كل من العقيد عبد الحفيظ بوصوف، عبد المؤمن الذيب، سي بومدين، وعلي ثليجي المدعو سي عمر، السنوسي صدار المدعو سي موسى كلف من خلاله كل واحد من طرف العقيد بوصوف بتقديم تصور شامل لإقامة إذاعة سرية تحتوي على كل الخطوات الضرورية المتعلقة بانطلاق البث الإذاعي، ومن الأسباب الرئيسية لظهور هذا السلاح الإعلامي هو نوعية الحرب التي تخوضها الجزائر و المسافات البعيدة بين القيادات العسكرية بالإضافة إلى النشاطات التي كانت تقوم بها جبهة التحرير الوطني على الصعيد الدولي و ضرورة توحيد القيادات وتامين الاتصال الدائم بين المسؤولين وكذا العزلة التي كانت تهدد الوحدة العسكرية. ووصول التعليمات والأوامر العسكرية بسرعة. الانطلاقة الفعلية للإذاعة السرية ..صوت الجزائر الحرة اثر انتهاء التحضيرات الأولية تم الشروع في البث التجريبي الذي استغرق أسبوعا كاملا وذلك من اجل معرفة مدى انتشار ذبذبات الجهاز في كامل التراب الوطني، وبالضبط يوم الخميس 16 ديسمبر 1956 على الساعة الثامنة مساء انطلق صوت الجزائر الحرة المكافحة مدويا تحت شعار " صوت الجزائر الحرة، صوت جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني يخاطبكم من قلب الجزائر" فشهدت الجزائر بذلك أول بث إذاعي رسمي. وانطلق البث بسورة الملك واشرف على الايذاع باللغة العربية بن الشيخ الحسين رضا المدعو عقبة بن نافع يذيع لمدة ساعة أما باللغة الفرنسية مذيعها عبد المجيد مزيان المدعو صلاح الدين الايوبي يذيع لمدة نصف ساعة، أما القبائلية فقد قام بايذاعها بن عبد الله حمود المدعو يوغرطة وذلك لمدة نصف ساعة. وفي هذا السياق يذكر موسى صدار بان "إذاعة الجزائر بدأت تبث برامجها تحت عنوان (هنا إذاعة الجزائر الحرة المكافحة ، صوت جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني يخاطبكم من قلب الجزائر) وبذلك استطاعت الثورة التحريرية أن تخاطب كافة أفراد الشعب الجزائري في المدن والقرى والأرياف بواسطة الإذاعة التي كان يسيرها جزائريون من جنود ومناضلي جبهة التحرير الوطني". وقد كانت هذه الإذاعة حاضرة في عدة مناسبات وأحداث هامة ونذكر على سبيل المثال: حضور رجالها مؤتمر طنجة سنة 1958 وحضورهم أيضا إلى جانب مفاوضي جبهة التحرير مع الفرنسيين بمدينة ميلان سنة 1960 وايفيان 1961، كما شاركت اذاعة الجزائر الحرة المكافحة في ملتقى اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإفريقية المنعقد بكوناكري خلال سنة 1960 بوفد يتكون من " محمد السوفي" وعبد الرحمان لغواطي" حيث ألقى كلاهما كلمة بهذا الملتقى، كما تلقت دعوة أخرى للمشاركة في ملتقى الإذاعات بالرباط سنة 1962، وشاركت بوفد يتكون من إبراهيم غافة وخالد سفار. دور الإذاعة السرية في تعزيز الوعي الجماهيري وتحطيم الدعاية الفرنسية لم يتوقف العدو الفرنسي لحظة منذ البث الأول من اجل تحييدها بالتخريب والتشويش بفضل اليقظة بكل ميدان وتقنية الأعوان المدربين أكثر فأكثر فإنها واصلت يوميا بعث رسائلها، ساعات البث كانت مقدسة بالنسبة للجزائريين الذين يملكون مذياعا، أما الذين لا يملكون مذياعا فكانوا يذهبون منذ الصباح ليجمعوا معلومات حول الأخبار الجديدة لدى أصدقائهم أو جيرانهم. من جانب آخر استطاعت "إذاعة الجزائر الحرة المكافحة" على رغم ضعف إمكاناتها، وحداثة تجربتها، أن تواجه الترسانة الإعلامية والدعائية الاستعمارية، وأن تعزز وعي الجماهير الشعبية، مرسّخة فيها قيم التحرّر والانعتاق، وتعبئتها الشاملة من أجل تحقيق الأهداف التي سطّرها بيان أول نوفمبر 1954 وذلك بفضل حنكة مذيعيها في تبليغ الرسالة الثورية، ومن ثم، تكون "إذاعة الجزائر الحرة المكافحة" قد حققت نجاحا رائعا في المجال الداخلي، ليس فقط في ميدان تعبئة الجماهير وتوحيد صفوفها حول أهداف الثورة التحريرية، ولكن كسب معركة المصداقية، بحيث أصبحت المرجع المعتمد لدى الرأي العام الجزائري، مما أدى إلى نسف محاولات الإعلام الاستعماري وتحطيم دعاياته التي ما فتئت تحاول عبثا أن تكسب ثقة المواطنين الجزائريين. كما نجحت "إذاعة الجزائر الحرة المكافحة" كسب المعركة على المستوى الخارجي بحيث أصبح صوت الثورة الجزائرية مسموعا عبر العالم، وتنتزع تأييد الرأي العام العالمي، وتعاطفه مع الكفاح العادل الذي يخوضه الشعب الجزائري. بحيث تأكد للرأي العام العالمي أن ما يجري في الجزائر هو ثورة شعبية وليس أعمال متمردين وقطاع طرق، وأنها ثورة جزائرية أصلية غير مستوردة مثل ما كانت تدعي فرنسا الاستعمارية.