إن المتمعن للواقع السياسي في دار الشيوخ، يدرك أيما إدراك انه من الصعب لأي داخل لمعترك السياسة أن يجد موطأ قدم فيها، لان التاريخ العريق للسياسة وطرق الوصول إلى السلطة في دار الشيوخ يجعل من السياسيين لا يستطيعون فهم هذا الواقع، الذي تميز بالعديد من المزايا ففي زمن الحزب الواحد - أي مرحلة ما بعد الاستقلال- سيطر حزب جبهة التحرير الوطني على مقاليد الحكم وأصبح هو الآمر الناهي في جميع ربوع الوطن المفدى على غرار دار الشيوخ التي هي محور حديثي اليوم وعن المراحل المتعددة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات مع حكم الحزب الواحد الذي يتلقى أوامره ونواهيه من مجلس الشيوخ الذي كان يقرر من سيكون المرشح للانتخاب وحتى انه يحدد الشخص الفائز سواء كان كفئا أو عكس ذلك هذا من جهة ، من جهة أخرى لم تكن الأمور بالصعبة في الحكم لان الأمية كانت سائدة في ذلك الوقت مما جعل أهل دار الشيوخ لا يهتمون بالشأن السياسي لان الجميع يعلم أن "الكونغرس" هو الذي رسم الخطة ونفذها ... لكن بعد دخول التعددية الحزبية أوائل التسعينيات تغيرت المفاهيم خاصة مع ظهور الإسلاميين ونجاحهم في الانتخابات مما غير في ذهنية المجتمع، و قد أصبح متعدد المشارب وبذلك نقص تدريجيا تدخل كبار العرش نظراً لكثرة القوائم الانتخابية التي كان يصنعها النظام بأي حال من الأحوال لان مصلحة الوطن أسمى من كل شيء رغم الأخطاء، حيث أن تلك المرحلة كانت مرحلة النظام...لكن مع مطلع الألفية الجديدة والانفتاح على الديمقراطية خصوصا مع اتضاح الصورة الحقيقية لدواليب السلطة، و كذا اكتساح الحلف الثلاثي وسيطرته على مقاليد الحكم الذي انعكس على كل أرجاء الوطن على غرار دار الشيوخ و التي كان فيها الدور السياسي في انتخابات 2002 مختلفا نظرا لظهور شخصيات جديدة، حيث ظن الجميع إن الأزمة انفرجت لكن ما لم يكن في الحسبان أن الصراع على المناصب هو الذي طغى فقدمت مصلحة الأحزاب على مصلحة المواطن . وهنا اطرح سؤالا : هل ما نتج عن انتخابات 2002 من شرخ سياسي داخل الأحزاب هو الذي صنع دار الشيوخ اليوم من خلال الصراعات الداخلية في حزب ال FLN بعد فوزه بالانتخابات والتي كانت سببا في خروج مرشحين من الجبهة وكانت فرصة للمرشح الثالث الذي لم يستطع في تلك الفترة إن يجاري تلك المرحلة وذلك لصعوبتها خاصة وان حزب RND كان بالمرصاد لأي خطأ ، وسؤالي الثاني هل خروج مرشحي حزب الجبهة من الرئاسة كان سببا في رسم خارطة جديدة أنتقلت بموجبها حمى الاستقالات من FLN في مرحلة 2002 الى RND في المرحلة الحالية فاصبحت كما يقال "موضة العصر" بأن يخرج مرشح RND متى شاء لحالة مرضية أو هروب من المحاكمة وربما الأيام القادمة ستأتي بالجديد فيخرج من يخرج ويبقى من يبقى ....وعلى الدنيا السلام أما عن مرحلتنا الحالية والتي قاربت على نهايتها فكان الصراع جليا منذ البداية "عروشياً" بمعنى الكلمة أكثر من ذي قبل فكانت قبيلة ضد قبيلة و من نفس العرش، حتى أصبحت ألقاب العرش في كل جدران المدينة تتنافس بين بعضها البعض على السلطة...والمؤكد الذي لا يختلف فيه اثنان أن الهدف ليس المواطن بل أغراض أخرى يعلمها القاصي والداني، وفي انتخابات 2007 ظهرت المفاجئات، فهل يعقل أن تنجح أحزاب ليس لها جذور تاريخية في دار الشيوخ وهو ما حدث فعلا حيث تحصل حزب ال RCD على مقعدين ممّا يؤكد بأن دار الشيوخ لا يحكمها الانتماء الحزبي بقدر ما تحكمها العروشية، والملاحظ أيضا أن هذه الانتخابات كرست مبدأ الشخص على حساب الحزب وهو ما حدث في حزب FNA الذي لا يملك تاريخ في دار الشيوخ مقارنة بالأحزاب العتيدة أمثال حمس ، الأفلان و الأرندي... من جانبها حركة مجتمع السلم و لأول مرة كانت نتائجها مفاجئة مقارنة بالتاريخ العريق الذي كان مغروسا في عقول أبناء دار الشيوخ أيام المجد التليد للحركة، ففي زمن الشيخ "محفوظ نحناح" استطاع الحزب أن يرعب الأحزاب السياسية الأخرى. أما عن السؤال الذي يطرح نفسه هل حركة مجتمع السلم قادرة على تجاوز المحنة خاصة في ظل الانقسام الحاصل في قمة الحزب بين "ابو جرة" و "مناصرة"، وهل دار الشيوخ ستكون ضمن مشروع الحركة في 2014 وتحكم البلاد كما يشاع ، وتكون على خطى حركة النهضة التونسية ؟ حقيقة أن الحديث ذو شجون خاصة في هذه المرحلة التي أصبحت فيها دار الشيوخ تزخر بطاقات جامعية كبيرة، فيها من تربى في أحظان المدرسة الاخوانية، ومنهم من ترعرع أيام الجامعة في مدرسة الوطنية... والسؤال المطروح عليهم ما محلهم من الإعراب في الانتخابات القادمة ؟ وهل هم مع الفساد والتزوير والجري وراء فتات الصناديق أم أنهم سيحملون المشعل في ظل المتغيرات الجديدة في الوطن العربي الذي استطاع فيه الشباب أن يصنعوا مجدهم ويرسموا طريق الحرية ؟... واقصد هنا بالطبع تحرير أنفسهم من براثين الأفكار القديمة البالية التي زرعها المرشحون السابقون ... فيما يمكن طرح سؤال آخر: هل تستطيع حركة "الانفتاح" الوافد الجديد على الساحة السياسية في دار الشيوخ أن تغير المعالم البالية التي تعود عليها الجميع خاصة إذا علمنا أن من يمسكون بزمام هذه الحركة هم من خيرة ما أنجبت دار الشيوخ فهم من خريجي الجامعات أبناء الوطنية ، كما انه و لأول مرة في دار الشيوخ تجتمع نخبة المجتمع في حزب واحد وتكون غالبيتهم من أصحاب المستويات العلمية من ليسانس إلى ماجستير وهذا في رأيي ما يجعل التحدي اكبر فهل يستطيعون مجارات هذا المعترك السياسي والفوز بالانتخابات بالاستفادة بطموح الشباب الذي يمثل الغالبية الساحقة في دار الشيوخ وهل يستطيعون القضاء على العروشية التي نخرت المجتمع ؟ لكن من منظور آخر، هل حقيقة أصبحت دار الشيوخ -كما قال احد أعضاء المجلس البلدي الحالي- جثة هامدة لا يمكن إجراء عملية جراحية لها، هذا إن أجزمنا أن الجثة يمكننا القيام بعملية جراحية لها - وهو من المستحيلات- إلا من ظن العكس فنحكم عليه إما بالجنون، أو أنه ليس من دار الشيوخ، حيث لا يعرف أنها في عداد الأموات سياسياً. وللعلم أني لست مع هذا الطرح الذي اعتبره حكما قاسيا نظرا لما تزخر به دار الشيوخ من شخصيات وإطارات يمكنها أن تسير بها إلى مرفأ النجاة، هذا بالطبع إذا أراد مثقفوها ونخبتها ذلك ،أما إن أرادوا أن يحكموا عليها بالموت فلنعتبر أن انتخابات 2012 أخر مسمار يدق في نعش حوش النعاس فيبيد الله الأرض ومن عليها فيغيركم بقوم يصلحون ما أفسده الماضون ممن قتلوا دار الشيوخ و أهلها بصمتهم على الظلم ولم يكلفوا أنفسهم بان يصنعوا مجدها ومجدهم.