ظل العالم الإسلامي يحتفي بذكرى ميلاد خير الخليقة، وتنتهز الأسر فرصة ميلاد المصطفى لترسيخ قيم حب النبي صلى الله عليه وسلم في أفئدة صغارها كي يشبوا بعد ذلك موقرين لسيرته معظمين لشأنه، وكانت المساجد العتيقة في المدينة تتدارس سيرة البشير شهرا قبل حلول الذكرى، ثم يتسابق الأولاد على حفظ واستظهار تلك المحطات المشرقة من سيرته العطرة، وتشعل الشموع في مظهر رمزي للدلالة على أن مقدم النبي نور أضاء الله به الكون، ويوسع على العيال وتسود مظاهر السخاء وهي أخلاق جاء بها المصطفى... ولم تزل تلك عاداتنا إلى يوم الناس هذا. ثم نبت بيننا قوم غلاظ القلوب ليس في نفوسهم ذرة حب لنبيهم ولم تستوعب عقولهم المغلفة بالجهل بمقاصد دينه وسيرته، ينكرون على الناس البهجة بالمولد، بل هناك من يبلغ به التطرف أن يعلن مظاهر الحزن وكأن لسان حاله يعادي النبي حتى وإن أنكر ذلك بمقاله، أقصى مبلغه من العلم أن الاحتفال بدعة وأن النبي لم يفعل ذلك ولا صحابته، اعتقادا منه أنه قد ألزم الجمهور الحجة، وهو في الحقيقة لم يقنع إلا نفسه وهواه فليس كل ما لم يفعله النبي بدعة كما أنه بالمقابل ليس كل ما فعله نحن مخاطبون به كما قرر ذلك أهل الأصول. لا ندري لحساب من يعمل هؤلاء وهم ينشرون الفرقة وينتهزون كل فرصة لإظهار أن ديننا ما يفرق فيه أكثر مما يجمع ولعل هذا من علامات الوهن والضعف الذي يعيش فيه العالم العربي، إن البضاعة التي يسوقها هؤلاء مزجاة لذلك يكثر مبتاعوها سيما وأن العامة صارت تأخذ دينها من غير مصادره فحل محل الشيخ الانترنت والفضائيات تسمم الأفكار وتعطي فتاوى على الهوى في غياب جهود التحصين الفكري الذي يحمي الدين من التلاعب والهدر. لقد طالعتنا الصحف حكاية أغرب من الخيال (ببلدية عين الفكرون) أن رجلا هوى على إمامه بعدما كبر بهم تكبيرة الإحرام بمطرقة هشم بها رأسه لأن الإمام أقر الاحتفال بالمولد وذاك الجاهل معاد للمحتفلين فسولت له نفسه التخلص من البدعة بهذه الطريقة ولو كان هذا الأبله يملك مسدسا لأفرغ حمولته في رأس إمامه، ولا ندري من غلا هاته الأفكار في رأسه حتى فاض عقله بالحكمة المؤدية إلى التصفية الجسدية ! حكاية أخرى ليست طريفة هذه المرة لكنها منذرة بخطر وشيك، لقد أبلغني أحد الأولياء أن رسالة - مجهولة المصدر- تصف المجتمع الجزائري بالكفر وأنه من الفرق الضالة كونه يحتفل بالمولد النبوي الشريف ومادام هذا المجتمع يحيي هاته المناسبة ويحتفي بأكرم الخلق فهو مبتدع وعلى ضلالة. هذا نموذج من الرسائل المكتوبة التي تبلغها بعض المدارس الخاصة بالجلفة غير الخاضعة للرقابة والتي تقدم في الأساس دروس دعم ولا ندري تحت أي نوع من الدعم يدخل توزيع مثل هاته الرسائل أما الرسائل الشفوية والسلوكية فحدث ولا حرج...! إن مجتمعا لا يصنع وسائل الحماية الذاتية من خلال منظومته التربوية ومصادر التدين المعتمدة بحيث تصبح محل ثقة تتكسر أمامها محاولات الاختراق والتفتيت، تصبح أجياله في مهب الريح تتلاعب بها دوائر الصراع الفكري كيف تشاء وتجندها في الوقت الذي تشاء كي تضرب أعماق المجتمع في المفصل الذي يصعب مداواته، خاصة وأن مجتمعنا الجزائري متعصب لدينه وعندما نلبس عليه الأشياء بإلباسها لبوس الدين تأخذ المسألة مستوى من التعقيد يصعب التعامل معه، وعندما نظيف لهذا التعقيد وضع شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في المزاد مع لهذه الشخصية من قدسية يمكننا أن نتصور حجم التصادم بفعل الدفاع عنه، وكأن هذا الرمز المحمي من الوحي يحتاج فعلا إلى حماية بشرية إضافية مهما قويت. ولن يكون للاحتفال مغزى إلا إذا اعتقدنا أننا نحن في حاجة إليه، حينئذ لن تأخذ الأصوات المعارضة للفرحة بالمولد أكثر من مدى أصوات المفرقعات التي تشوش في أحيان قليلة متعة الهيام بمقدم خير الأنام.