يعتبر موضوع الحركات المناوئة للثورة التحريرية أكثر المواضيع تعقيدا وحساسية بسبب السكوت المطبق ممن عايشوا الثورة وكذا ابتعاد الباحثين عن الولوج في المواضيع الحساسة والتي مازالت محفوفة بالمخاطر، واستئثار المؤرخين الفرنسيين بالكتابات التاريخية حول هذه المواضيع التي توظف وجهة النظر الاستعمارية اتجاه الثورة التحريرية ... خلال الثورة التحريرية تعرضت المنطقة الأولى من الولاية السادسة التاريخية والتي أنشأت بعيد مؤتمر الصومام وعين على رأسها "علي ملاح" المدعو "سي الشريف " كقائد لهذه الولاية التي لا يعرف عنها الكثير لأنه يعتبر في الأصل من القادة التابعين للولاية الرابعة التي دأبت على مساعدة وتنظيم مجاهدي هذه الولاية الفتية، لكن شيئا رهيبا لم يكن في الحسبان فاجأ هذا التنظيم الجديد تمثل في تمرد الضابط الأول "الشريف بن السعيدي" الذي كان على رأس كتيبة في القسم الشمالي من الولاية السادسة، المتاخمة للولاية الرابعة، هذا الأخير ولد سنة 1925 في دائرة ماجينو شلالة العذاورة. حين بلغ 21 سنة، تطوع للخدمة في الجيش الفرنسي وشارك في حرب الهند الصينية حتى نهاية سنة 1955 ، التحق بجيش التحرير الوطني بعدما كان في إجازة بالجزائر عندما اتصل به قادة الولاية السادسة وعرضوا عليه الانضمام للثورة غير أنهم لم يقوموا بالتحريات اللازمة عليه، وفعلا التحق بالثورة، وعين على رأس كتيبة، وانتهى به الأمر إلى أن أصبح من أبرز الضباط المرغوب فيهم في الولاية السادسة في ذلك الوقت كان يبلغ 30سنة، ذو بنية جسدية قوية وعرف عنه ميولات للقيادة. دأب "الشريف" على ضم وتنظيم فوج من الرجال من دشرته، دشرة أولاد عقون، عرش أولاد سلطان، قرية السواقي وانطلق في مضايقة قوات العدو. اعتبرته استخبارات الجيش الفرنسي في سنة 1956 من أخطر العناصر النشطة في محور ماجينو عين بوسيف ، رغم ذلك كانت علاقته مع بقية المسيرين متوترة إلى درجة العداوة في ظروف كانت فيها أوضاع الولاية صعبة للغاية، الأمر الذي زاد الأزمة تعقيدا أكثر فأكثر. الشريف بن السعيدي يبدأ العصيان..وتبدأ المأساة يمكن تفسير أسباب الخلاف بين شريف بن السعيدي وقيادة الولاية السادسة إلى شتاء 1957م، عندما أشعرت قيادة الثورة، العقيد سي الشريف "علي ملاح" بأن هناك شحنة من الأسلحة قد غادرت من المغرب الأقصى إلى الثوار في الداخل باتجاه الولاية السادسة، الأمر الذي دفع بالعقيد سي الشريف إلى جمع جنود الكتائب الثلاث من أجل التوجه إلى الولاية الخامسة لملاقاة دفعة السلاح التي كان يعلق عليها أمالا كبيرة. خصوصا وأن الولاية السادسة الفتية كانت في هذه الفترة تعاني من مشاكل تنظيمية تمثلت بشكل خاص في مشكلتي التأطير والتسليح. وقد عين على رأس الكتائب الثلاث على التوالي كل من الملازم الأول "مصطفى بن عمار" على الكتيبة الأولى، والنقيب "عبد العزيز" على الثانية، و"شريف بن السعيدي" على الكتيبة الثالثة. وفي بداية شهر مارس انطلقت الكتائب الثلاث في اتجاه الغرب وعند اقترابها من الولاية الخامسة واجهت مشاكل عدة بسبب صعوبة التضاريس المتمثلة في جبال الناظور، ورغم ذلك تمكن الملازم الأول "مصطفى بن عمار" من اجتياز الحاجز الطبيعي مع أفراد الكتيبة الأولى، بينما أكتشف أمر الكتيبة الثانية من طرف قوات الجيش الفرنسي ووقع بين الطرفين اشتباك في الموقع المعروف بالنيف "ENNEF" فقدت من جراء ذلك بعض جنودها، كان على رأسهم قائدها النقيب عبد العزيز، فيما تمكن البعض الآخر من اجتياز الحاجز والالتحاق بأفراد الكتيبة الأولى وتراجع البقية إلى الوراء حيث تتمركز الكتيبة الثالثة التي يقودها "شريف بن سعيدي". الشريف بن السعيدي لم يكن متحمسا منذ البداية للذهاب إلى الولاية الخامسة، لذلك اغتنم هذه الفرصة، وبعث برسالة عاجلة إلى سي شريف "علي ملاح" يلتمس فيها العودة إلى الولاية السادسة بسبب الخطر الذي يتهددهم، خصوصا بعدما فقدت الكتيبة الثانية قائدها النقيب "عبد العزيز" رفقة مجموعة من جنوده، وما إن وصلت الرسالة إلى العقيد سي الشريف، حتى بعث إليه برد شديد اللهجة، وأمره بمواصلة المهمة مهما كلف الثمن، وتوعده بالإعدام إن عصى أوامره ويبدو أن العقيد سي الشريف لم يستوعب فكرة تأثر رجل عسكري محنك في مستوى بن السعيدي بعائق طبيعي، في الوقت الذي كانت فيه كل الآمال المعلقة على نجاح هذه العملية لا تقدر بثمن. أحدث موقف سي الشريف، ردود فعل سريعة من طرف شريف بن سعيدي الذي شرع على الفور في إقناع كل من يثق فيهم من كتيبته الذين ينحدرون من عرشه أولاد سلطان بعزم وحزم قيادة الولاية السادسة، الذين معظمهم من الولاية الثالثة على قتله، وأطلعهم على رد العقيد سي الشريف "علي ملاح" الذي تضمن وعدا صريحا بإعدامه إن خالف الأوامر، وعلى هذا الأساس قرروا فيما بينهم العودة سرا إلى الولاية السادسة، والشروع في عملية تصفية قادة وإطارات الولاية السادسة الذين بعثت بهم قيادة الثورة المتمثلة في لجنة التنسيق والتنفيذ CCE، عقب مؤتمر الصومام سنة 1956م. تصفية قادة الولاية السادسة ..علي ملاح ..وعمار الروجي في يوم 31 مارس 1957 قبل غروب الشمس، كان قائد الولاية السادسة علي ملاح برفقة كاتبه موسى ومكلف الاتصال علي ملال قرب بلدية دراق ، هنالك، باغتهم المتآمرون وقتلوهم شر قتلة، وأوهموا سكان الدواور المجاورة أن الضحايا ''حركى'' متعاونين مع الجيش الفرنسي. وهنا نقف عند نقطة مهمة مازالت تكتنفها عديد التساؤلات منها هل أن ما قام به الشريف بن السعيدي في هذه المرحلة يعتبر صوابا إذا ما علمنا أن الطريقة التي عومل بها من طرف قائده عمار الروجي الذي يعتبره المؤرخ "إيف كوريار" بانه يمثل صورة سيئة لمجاهدي الولاية الثالثة التاريخية "القبائل" مقارنة مع بقية زملائه، حيث انه كان يستعمل التجريح اللفظي ضد بن السعيدي إضافة إلى سلوكاته المشينة وصرامته في إعطاء الأوامر إلى درجة أنه هدده بالإعدام في إحدى المهمات العسكرية الخاصة بمطاردة فلول بلونيس في جنوب الصحراء الأمر الذي ترك في نفسه مرارة إضافة إلى تعرض سكان عرش أولاد سلطان إلى انتهاك لحرماتهم ربما هذه الأسباب جعلت الشريف بن السعدي يفقد السيطرة على نفسه ويدبر مكيدة للروجي ... أما فيما يخص قائد الولاية علي ملاح فقد ضاق بن السعيدي به ذرعا خاصة وان قائد الولاية السادسة اعتبر سببا للازمة لأنه لم يتدارك الموقف، كل هذه العوامل جعلت بن السعيدي يقوم بتحريض السكان وإثارتهم وأصبح يجوب القرى والمداشر ويبث الإشاعات بين أوساطهم، على أن هناك فرق بين العرب والقبائل الذين جاؤوا لغزوهم، واهانتهم وفرض مسؤولياتهم وأوامرهم واعتمد على بعض الأخطاء التي ارتكبها الروجي وجنوده لجهلهم بعادات المنطقة وخصوصياتها لإثارة السكان، الأمر الذي مكنه من إحكام قبضة على عدد كبير منهم في مدة وجيزة. انطلق شريف بن سعيدي في تصفية قادة الولاية السادسة، ولم تكن هذه العملية بالأمر الهين، لأن العقيد سي الشريف- علي ملاح- كان يمثل أول عقبة في طريقه وأصبح يشكل بالنسبة إليه خطرا كبيرا أكثر من النقيب الروجي، خصوصا أنه تمكن بعد فترة قصيرة من تعبئة وإقناع معظم سكان المنطقة الذين شاركوه في عملية انطلاق العمل المسلح بعد أن حضي بكامل ثقتهم. إتخذ بن السعيدي من عين بوسيف مقرا له، بعد أن تمكن من ضم بني عشيرته والمتعاطفين معه، وبدأ تخطيطه للإيقاع بقائد الولاية واغتياله فاتصل به زاعما بأن الوضع في منطقته سيء للغاية، وطلب لقائه بمفرده، و قبل سي الشريف دعوته واتفقا على أن يكون الاجتماع في قرية "السيوف" ناحية دراق في أواخر شهر مارس 1957م، وصل العقيد سي الشريف إلى ناحية دراق في الوقت الذي كان فيه بن سعيدي يترصده رفقة كاتبه المدعو "موسى" وعون اتصال يدعى "ملال علي"، وقد تمكن من إغتياله في دشرة أولاد بجبل شاون، يوم 31 مارس 1957م، رفقة مجموعة من المجاهدين... بذلك فتح باب فتنة دامت طويلا. في 2 أو 3 أفريل 1957 الموافق لليوم الثاني أو الثالث من شهر رمضان، نصبت قوات بن سعيدي كمينا ب"كرمة شيحا" مستهدفة الضابط الثاني للولاية عمار المدعو الروجي وهو في طريقه إلى مركز القيادة بأولاد عايد، وزيادة في الدهاء والمكر فان بن السعيدي كان يرافق الروجي، وعندها شرع أتباع هذا الأخير بإطلاق النار تفطن الروجي للمؤامرة وأطلق النار على رفيقه فجرحه في يده قبل أن يسقط عمار الروجي شهيدا... من جانب أخر يرى المجاهد" لخظر بورقعة" أن بن السعيدي بعد هذه الحادثة أقدم على إطلاق النار على نفسه من اجل إيهام الموجودين في مقر القيادة انه و الروجي تعرضا لكمين من طرف القوات الفرنسية ... واصل بن السعيدي سيره نحو سور الغزلان فاغتال الضابط الأول "عبد الرحمان جوادي" ومن معه من إطارات . ثم نصب نفسه قائدا للولاية يحيط به أفراده وأعوانه المقربين ولما حاول السيطرة على مقر الولاية، جوبه بمقاومة شديدة أجبرته على التقهقر إلى سور الغزلان... العقيد سي امحمد بوقرة قائد الولاية الرابعة يكشف المؤامرة ..وبن السعيدي بين أحضان المستعمر انتشر خبر هذا التمرد وواكبته إشاعة مفادها أن خلافا بين العرب والقبائل قد نشب، مما أضفى على الأجواء نوعا من التوتر والقلق فبات التمييز بين الصح والخطأ من الأمور الصعبة هذا ما استدعى تدخل مسؤولي الولاية الرابعة والتي كان على رأسها العقيد "سي أمحمد بوقرة" الذي تنقل إلى المنطقة رفقة السعيد مقراني و سي الأخضر وبرابح زراري و سي عز الدين وكومندو علي خوجة. حيث أنهم وضعوا خطة لمهاجمة بن السعيدي ورجاله مما جعلهم يسرعون الى الالتحاق بالجيش الفرنسي وقرروا قبول الاستسلام لهم فقد تم تحويلهم إلى تنظيم مناوئ للثورة يعمل تحت قيادة الجيش الفرنسي، وبدون مطالب سياسية، وتحدد منطقة تحركات لهذا التنظيم ، تترامى أطرافها بين عين بوسيف وماجينو (شلالة العذاورة)، كهمزة وصل بين هؤلاء ''المتعاونين'' والسلطات الفرنسية. هذا الفعل هو الذي أزاح الغموض عن قضية بن السعيدي إذ من المحتمل أنهم كانوا مدفوعين من طرف القوات الفرنسية لضرب الثورة من الداخل. وعلى هذا الأساس اتخذت الولاية الرابعة إجراءين تنظيميين اثنين، الأول هو اقتطاع المنطقتين الأولى والثانية للولاية السادسة وضمهما لها، لتصبحا المنطقة الرابعة التابعة لها، هكذا، أضحى مشكل جيش بن سعيدي مشكلا داخليا خالصا لها. لمعالجته سياسيا، عيّن في شهر جويلية 1957 مجلسا للمنطقة الجديدة مكونا من حمدي بن يحيى (سي حليم)، محمد قاضي والحاج بن عيسى، مهمته الأساسية (من بين المهام الأخرى الموكلة له) إعادة الثقة بين جبهة التحرير الوطني والشعب، وتفادي وقوع أزمة من نفس النوع. وكلف كومندو علي خوجة بالتضييق على العناصر المتمردة. أما الإجراء الثاني، فهو تعيين الطيب الجغلالي على رأس المجلس الجديد للولاية السادسة، و كلف عبد الرحمن مقالتي بنيابته، الذي يكسب خبرة بمسائل الجنوب... فشرعا في تضميد الجراح وإعادة بناء النظام من جديد. رغم أن تعيين الطيب الجغلالي لم يلق استحسان لجنة التنسيق والتنفيذ المرابطة في الخارج، واعتبرتها تدخلا في صلاحيتها، وسارعت إلى تنصيب أحمد بن عبد الرزاق (سي الحواس) قائدا للولاية السادسة. المراجع - الرائد لخضر بورقعة "شاهد على اغتيال الثورة"،ط1،دار المحكمة الجزائر،1990، ص،ص(119-115). - صايكي (محمد): شهادة ثائر من قلب الجزائر، دار الأمة ,2000 الجزائر - عمار قليل: ملحمة الجزائرالجديدة، دار البعث قسنطينة، 1991، ج2، ص،09-10. - تقرير الملتقى الجهوي لتسجيل وقائع أحداث الثورة الولاية الرابعة الجزء الأول من 20اوت إلى نهاية 1958 - عبد الناصر ملحاني ، شريف بن سعيدي.. من الثورة إلى الثورة المضادة -Témoignage sur l'affaire bensaidi, http:/www.ches.com/ wilaya (4) les affaires de la IV-HTM-Aout 2004. - Chaid (Hamoud): Sans haine ni passion, édition Dahleb- ENAG, 2005, AlgerHamoudi chaid la wilaya V la prés le congrès de la soumam , sous haine ni passionn, http , www ches.com.wilaya 4, Bentemoing, htn, Août 2004. - Yves Courrier la guerre d'Algérie, l'heure des colonels, fayard, France, P66. - Charles Robert Ageron-Une troisième force combattante, pendant La guerre d'Algérie.