الفريق أول شنقريحة يزور حوض بناء السفن " ڨوا شيبيار ليميتد" في ثاني يوم من زيارته إلى الهند    عطاف يجري محادثات مع المبعوث الخاص للرئيس الموريتاني    تنظيم الطبعة ال 19 للصالون الوطني للتشغيل والتكوين المتواصل والمقاولاتية من 8 الى 10 فبراير بالعاصمة    "الأونروا" تحذر من مخاطر تعرض مئات آلاف الفلسطينيين في غزة للبرد القارس    الكويت تجدد موقفها الثابت الداعم للشعب الفلسطيني    رئيس جنوب افريقيا يؤكد استمرار بلاده في الوقوف مع الشعب الفلسطيني    المواطنون الراغبون في أداء مناسك العمرة مدعوون لأخذ اللقاحات الموصى بها    رئيس الجمهورية يتلقى مكالمة هاتفية من نظيره التشيكي    صيدال: الاطلاق المقبل لمشروع انتاج المادة الأولية للعلاجات المضادة للسرطان    مهرجان الصورة المؤسساتية: تتويج 14 فيلما مؤسساتيا بجائزة أفضل الإبداعات السمعية البصرية في مجال الأفلام المؤسساتية    صيدال: الاطلاق المقبل لمشروع انتاج المادة الأولية للعلاجات المضادة للسرطان    الألعاب الإفريقية المدرسية (تحضيرات) : وفد اللجنة الأولمبية يؤكد جاهزية المنشآت الرياضية بولاية سكيكدة لاحتضان جزء من المنافسات    كرة القدم/كأس الجزائر (الدور ثمن النهائي): ترجي مستغانم و وفاق سطيف أول المتأهلين للدور ربع النهائي    السيد عطاف يجري محادثات مع المبعوث الخاص للرئيس الموريتاني    الجوية الجزائرية/الديوان الوطني للحج : اتفاقية لنقل الحجاج وفقا لآليات تنظيمية ورقمية متطورة    تجارة: مراجعة شاملة للإطار التشريعي وتوسيع الاستثمار في المساحات الكبرى    التدابير الواردة في قانون المالية لسنة 2025 تهدف إلى تحسين مناخ الأعمال في الجزائر    مشروع ازدواجية الطريق الوطني رقم 27 : تسليم محور قسنطينة خلال الثلاثي الرابع من 2025    وفاة المجاهد و الخطاط عبد الحميد اسكندر عن عمر ناهز 86 عاما    حيداوي يبرز جهود الدولة في التكفل بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة    المنازل الذكية تستقطب الزوّار    إبراهيموفيتش يكشف سبب رحيل بن ناصر    مسلوق يتعهّد باحترام رزنامة المباريات    راموفيتش مدرباً لشباب بلوزداد    تعويضات للعمال المتضرّرين من التقلبات الجوية    الجيش الوطني يسترجع أسلحة وذخيرة    صوت المريض    تنفيذ تمارين افتراضية بالجلفة    بذرة خير تجمع الجزائريين    بوغالي يجدّد رفضه للائحة البرلمان الأوروبي    عطاف يُحادث فيدان    إبراز التراث الأدبي والديني للأمير عبد القادر    هذه ضوابط التفضيل بين الأبناء في العطية    شاهد حي على همجية وبربرية الاحتلال الفرنسي    ترامب يفتح جبهة صراع جديدة    مع فرضية غير واقعية    خط سكة الحديد الرابط بين العبادلة وبشار يوضع حيز الخدمة قريباً    سايحي يلتقي نقابة البيولوجيين    كرة القدم/ كأس الجزائر: تأجيل مباراة اتحاد الجزائر-نجم مقرة ليوم الاثنين 10 فبراير    مناجم: تنصيب مدير عام جديد للشركة الوطنية للأملاح    أمطار رعدية مرتقبة بعدة ولايات جنوب البلاد ابتداء من يوم الخميس    ندوة تاريخية للتأكيد على همجية وبربرية الاحتلال الفرنسي    اليمين المتطرّف الفرنسي في مرمى النّيران    "الأميار" مطالبون بتحمل مسؤولياتهم    صب منحة رمضان في حسابات مستحقيها قبل منتصف فيفري    استعادة الأراضي غير المستغلّة وتسريع استكمال المباني غير المكتملة    تأسيس جمعيات للتنشئة السياسية لفائدة الشباب    الجزائر تحتضن مؤتمر الاتحاد الإفريقي    "أباو ن الظل".. بين التمسّك والتأثّر    معرض لفناني برج بوعريريج بقصر الثقافة قريبا    ندوة وطنية عن المعالم والمآثر بجامعة وهران    رياض محرز يشدد على أهمية التأهل إلى كأس العالم    المبدعون من ذوي الاحتياجات الخاصة يعرضون أعمالهم بالجزائر العاصمة    إمام المسجد النبوي يحذّر من جعل الأولياء والصَّالحين واسطة مع اللَّه    الإذاعة الثقافية تبلغ الثلاثين    هذا موعد ترقّب هلال رمضان    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذة الجزائرية " وريدة أبراهم" نموذج الداعية الملتزمة، في ذمة الله
الجامعة الامريكية تفتقد إحدى رائدات علم المكتبات المعاصر
نشر في الجلفة إنفو يوم 14 - 02 - 2014

فجعت الجالية الجزائرية أخيرا، كما فجعت الاسرة الجامعية الامريكية خصوصا و الإسلامية عموما، بخبر وفاة الأستاذة الجزائرية " وريدة -عقيلة- أوبراهم"، عن عمر ناهز الستين سنة، تحديدا المرحومة من مواليد 1950 بالجزائر.
للذين لا يعرفونها في الجزائر، فالسيدة أوبراهم، تعتبر رائدة من رواد علم المكتبات في أمريكا وهي تشتغل مديرة المكتبة الكبرى بجامعة " ستيفنسبنيو جيرسي" الأمريكية ، بحيث تعد " وريدة" - كما يحلو لزميلاتها تسميتها- تعد رائدة التطوير التقني والتغيير العلمي حقا بشهادة رئيس جامعتها الدكتور نارمان فافردين، كما كتب في كلمته التأبينية، وكما كتبت أيضا عنها إحدى زميلاتها فور سماع الخبر، قائلة: " والله إنه لفقدان و خسارة كبرى لتخصص علم المكتبات المعاصر، تعجز الكلمات عن التعبير عن الحزن العميق و الفراغ الرهيب لجامعاتنا في ميدانها".
أما زوجها الجزائري الدكتور يوسف أوبراهم، فقد أوكل و طفليه سمير و سفيان أمرهم لله سبحانه، مطمئنين لقوله تعالى: "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" .. كما استطرد الدكتور يوسف في حواره لنا، محاولا سرد تاريخ حياة زوجته المفعم بالعطاء العلمي كامرأة مديرة لفريق عمل علمي مختلط الأعراق و الأجناس و التزامها الشرعي بينهم بدينها و حتى بحجابها ، كل ذلك في ديار الغرب. وعت السيدة وريدة بنباغتها، أن تغيير الوسائل يؤدي حتما إلى تغيير العقلية في البيئة التي يمارس فيها التغيير، و قد يكون هو الأمر الذي أرغمها أو حفزها مكرهة على مغادرة الجزائر، غير أن كون هذه الثورة هادئة لا تراق فيها دماء ولا تحتل فيها أراض، لأنها تعلم أن شعوبا كثيرة تظل على الهامش وفي منأى عنها، مكتفية، بل معتزة ببؤسها المعرفي.
و يعود تاريخ وصول الدكتور يوسف أوبراهم لأمريكا لأول مرة عام 1976 في ولاية أوهايو، ثم غادرها عائدا للتدريس في الجزائر وتحديدا بالمعهد الوطني للإلكترونيات ببومرداس{ جامعة بومرداس حاليا} ، حيث كانت السيدة حرمه مديرة المكتبة الجامعية لنفس المعهد. و اشتغلا سويا في الجزائر حتى عام 1983.
ولأن البحث العلمي لا يريد التقييد، بل الحرية و الاجتهاد المستمر، و أمام العراقيل فقد حاول العمل بصبر وتفاني خدمة للصالح العام لكن أمام إكراهات السياسة الأحادية و تعدد نزغات ووساوس البيروقراطية، ناهيك عن تفاقم الجهل الذي من أنفك ينخر رفوف المكتبة و يتسرب للمخابر العلمية في جزائرنا الفتية من طرف أشباه إداريين لا يحسنون للتصرف معنى و لا للتسيير قيمة و لا يعرفون للبحث العلمي أولويات ولا يموتون أحيانا حتى للوطنية بصلة التي كثيرا ما تغنى بعضهم بها، كل ذلك على حساب التحصيل العلمي الشريف للطلبة الأبرياء.
أمام هذا الوضع المتردي و لكي لا تؤنبهم ضمائرهم على التقصير الحاصل في حق الأجيال الجزائرية الذكية و الواعدة، فضل الدكتور أوبراهم و زوجته "الانسحاب بشرف من ميدان الصراع" والرحيل بحسرة بعيدا عن أرض أجداده و العودة مكرهين للجامعات الأمريكية التي تحترم العلم و تحتضن العلماء.. السيدة وريدة، رغم أنها تعلم كغيرها أن العبرة ليست باقتناء الكتب في المكتبات وتصفيفها في الرفوف و الأدراج، على حد تعبير المثل الجزائري " العلم في الرأس وليس في الكراس"، ولكن العبرة بالفهم والمطالعة فيها
وأنهى الدكتور يوسف سرد فصول قصته علينا بزفرة عميقة قائلا: "الحمد لله على كل حال، ما شاء الله قدر فعل، هذا قدرنا ..و "لا تدري نفس بأي أرض تموت" و "لا نقول إلا ما يرضي ربنا.. وإنا لله و إنا إليه راجعون" ثم تنهد ثانية و أردف يقول لنا :" كم من لحظات جميلة قضيناها هنا في أمريكا مع الجالية الجزائرية ، خاصة في بداية تسعينيات القرن الماضي، كان هناك هجرة أدمغة لامعة و سواعد شابة محترمة ، وكان بعض الطلبة الجزائريين في رمضان يأتون لبيتنا للإفطار معنا وهم عزاب حينها، بحيث تعد لنا المرحومة، أم سمير، الإفطار الجزائري تقريبا كل مساء، رغم أشغالها المتعددة في الجامعة وفي صفوف الجالية بالمركز الإسلامي دون كلل و ملل، و ها هم و الحمد لله شباب الأمس، رجال ونخبة الغد من العقول الجزائرية الواعدة في ولاية "نيوجيرسي" أصبحوا اليوم أساتذة و إطارات بعائلاتهم يردون لها الجميل بالتعزية والمواساة و الترحم على روحها الطاهرة، بحيث حضر جمع غفير لتوديعها في المقبرة الإسلامية مع معارفنا الكثر من الامريكان و المسلمين.."
ثم أضاف يقول الدكتور يوسف مفتخرا " وأنا أستشهد بهذه التضحية و الجندية الرائعة لزوجتي و أم أولادي، لا يمكن أن أنسى بحال إحترام زملائها لها في الجامعة ، وهي تشتغل معهم صائمة في رمضان، فيحاولون الإشفاق عليها أثناء وجبة الغداء، لكن لا تبالي، فالأمر عندها سيان، وحتى من جهة إدارة الجامعة لم يلمسوا لديها أي تعب او إرهاق في رمضان أو حتى في غير رمضان مقارنة بباقي أشهر السنة، بل كانت كلها نشاط و حيوية وعطاء .. وحتى حين اكتشاف الورم الخبيث الذي بدأ ينخر جسمها النحيف منذ ثلاث سنوات خلت، لم تستسلم و لم تطلب راحة و لا عطلة، بل أوكلت أمرها لله، صابرة محتسبة كجندية مسبلة في سبيل رسالة " إقرأ" التي جاء بها خاتم الرسل سيدنا محمد{ص}، بل منذ أشهر فقط قبل وفاتها قدمت "مشروع التطوير الإلكتروني للمكتبات" عبر النقل التلفزي المباشر، لوفد من الخبراء و ضيوف الجامعة، مباشرة من المستشفى وهي تخضع حينها لعملية " العلاج الكيماوي "، و لم يلحظ أحد عنها أي إرهاق أو ضعف أو تعب .. بل الأغرب أنها أخفت أخيرا حتى على والدتها مرضها بداء السرطان، وأكتفت بالقول أنها مريضة بضعف و إرهاق و سوف تعود لعافيتها بعد أشهر، بحول الله".
وأمام هذه الفاجعة، ليس فقط كجزائري و قارئ نهم للكتاب عموما، بل كرجل أشرف و لو لوقت وجيز على دار نشر مع بعض الاخوة و متابع لحركة الكتاب عموما مدة ربع قرن، أشعر بخسارة كبيرة بفقدان السيدة الفاضلة وريدة أوبراهم، ليس للعالم الإسلامي والجزائر فحسب، بل بفقدان هذا النوع من النبتة الطيبة لإحدى بنات الاسلام التي استطاعت التعايش السلمي مع الاخرين حتى في البلاد الغرب. وبكلمة واحدة فإن مجال الكتاب الإلكتروني لا يزال فرصة للبلاد المتخلفة كالجزائر و باقي دولنا العربية لدخول عالم المعرفة إنتاجا وتداولا. بل تكاد دراسات أوروبية أن تجزم أنه باستطاعة بلد مثل الجزائر خاصة بما حباها الله من طاقات بشرية ومادية خاصة مع وفرة أموال بترول صحراء الجزائر وغازها، على أن تفتح الأبواب للعقولة المهاجرة لاستدراك نهضتها العلمية المتعثرة
فقد وعت - رحمة الله عليها- منذ نعومة أظفارها في مسقط رأسها بالجزائر أثناء كابوس الاستعمار الفرنسي الحالك لأرضنا، أن قيمة الكتاب غالية و هي فعلا - كما يقول المثل الصيني " أفتح كتاب، يفتحك" أو المقولة المعاصرة" الكتاب محرك التاريخ وباعث الشعوب من سباتها"، بل أيقنت- رحمة الله عليها-، أنه بالكتابة والكتاب وحده انفصلت الأمم المتحضرة عن أطوارها البدائية، وبقدر شيوع الكتابة والقراءة تترقى الشعوب في مدارج التقدم والرقي الحضاري. لا لشيء إلا لأن الطفلة" وريدة" ترعرعت في أحضان عائلة مؤمنة مجاهدة تفقه أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي فعل أمر: "إقرأ" النورانية، رغم ليل الاستعمار الفرنسي الداكن. لتفهم بعدها مع فجر الاستقلال "أن الحضارة العربية الإسلامية بدأت عمليا من خلال عملية التدوين والترجمة و بالتالي إحترام قيمة القرطاس والقلم"..
وأيقنت خاصة، كتلميذة من بنات الحراش بالعاصمة الجزائرية، أنه لا طريق لتنمية العقول وترقية الأذواق، أي تثقيف الإنسان، غير طريق الكتاب والقراءة. هذا أمر تأكد معايشته لما وصلت لأمريكا لأول مرة، أن الدول المتقدمة كانت قد وعته بعمق و بالتالي أصبح أمر تهييئ ظروف القراءة والاطلاع جزءا من برامجها السياسية التي تثير اهتمام الجمهور، بل أكثر من ذلك، لما لا وهي أول دول العالم حضارة و تقدما حينها واليوم خصوصا..
كما وعت - رحمة الله عليها- أيضا، سر تقدم و تطور العالم، فبعد القرطاس والقلم، جاء دور التكنولوجيا والطابعة التي اختصرت المسافات بسرعة البرق لما فتحت المجال "للبديل الإلكتروني" و"الكتاب الرقمي" الذي بدأ بحق و حقيقة يسري في أحشاء العالم الحديث ثورة معرفية ذهنية مذهلة ، شبيهة بتلك التي اجتاحت العالم وهو ينتقل من الشفوية إلى الكتابة، أو هي، على الأقل، شبيهة بتلك التي سرت في أحشائه منذ منتصف القرن الخامس عشر عندما اخترع جوتنبرج المطبعة (سنة 1456م)، فكان ذلك وسيلة لتعميم المعرفة على نطاق واسع، ساهم في التهيئة للنهضة الأوروبية وتسريعها، كما يؤكد ذلك الباحثون اليوم في هذا المجال المعرفي التنافسي المتشعب الأطراف.
وقد وعت السيدة وريدة بنباغتها، أن تغيير الوسائل يؤدي حتما إلى تغيير العقلية في البيئة التي يمارس فيها التغيير، و قد يكون هو الأمر الذي أرغمها أو حفزها مكرهة على مغادرة الجزائر، غير أن كون هذه الثورة هادئة لا تراق فيها دماء ولا تحتل فيها أراض، لأنها تعلم أن شعوبا كثيرة تظل على الهامش وفي منأى عنها، مكتفية، بل معتزة ببؤسها المعرفي. وقد كانت تخشى كما كان يخشى أقرانها من علماء إستقراء المستقبل، أن يتطلب دخولنا للمجال الإلكتروني في البحث العلمي عدد القرون التي تطلبها دخول المطبعة للعالم العربي، حينها تكون الرزية الكبرى و الثمن أغلى و بالتالي نبقى في ذيل ترتيب الأمم، لا قدر الله.
ولقد صار من نجاعة المعالجة الإلكترونية للمعرفة تخزينا وتداولا ما جعل "الأستاذة وريدة" تقدم مشروعا متكاملا متسائلة بحذر عن مصير الكتاب الورقي؛ هل ستبقى له وظيفة بعد الوصول إلى تحويله إلى معطيات رقمية جاهزة للقراءة والتحميل مجانا أو بمقابل رمزي كي يستفيد منه الباحثون والطلبة عبر العالم أجمع، بحيث تصبح العملية في منتهى البساطة، بحجم لعبة الأطفال، بنقرة واحدة على حاسوبك و أنت على بعد آلاف الكيلومترات يمكنك أن تشفي غليلك المعرفي من محيط العلوم الواسع المترامي الأطراف..
وكما كانت - رحمة الله عليها- تتوقع كما توقعت العديد من الدراسات الغربية أنه يتم في سنوات قليلة قادمة إدخال جميع المكتبات العالمية إلى المجال الإلكتروني، غير أن الواقع المغاربي خصوصا والعربي عموما لا يبشر بخير في هذا المجال، فقد أشار قبلها تقرير أممي إلى أن التجهيز مازال دون المعدل العالمي بكثير، و هذه إحصائيات 2003 رغم قدمها تكشف عيوبنا وعورات منظومتنا التربوية (18 حاسوبا لكل ألف مواطن في العالم العربي، مقابل معدل عالمي يصل إلى 78.3 حاسوب، ولا يتجاوز عدد مستعملي الأنترنيت 1.6 من كل ألف)، ووتيرة التغيير ضعيفة جدا، خاصة مع وضع دول العالم العربي السياسي الحالي، وخوف انتكاس بعض تجارب الربيع العربي الفتية..
وبكلمة واحدة فإن مجال الكتاب الإلكتروني لا يزال فرصة للبلاد المتخلفة كالجزائر و باقي دولنا العربية لدخول عالم المعرفة إنتاجا وتداولا. بل تكاد دراسات أوروبية أن تجزم أنه باستطاعة بلد مثل الجزائر خاصة بما حباها الله من طاقات بشرية ومادية خاصة مع وفرة أموال بترول صحراء الجزائر وغازها، على أن تفتح الأبواب للعقولة المهاجرة لاستدراك نهضتها العلمية المتعثرة منذ أزيد من عشرين سنة خلت، رغم ما تعشش من جهل مركب في العديد من رفوف و أروقة مجتمعنا بحيث ضيعت فرص غالية على أجيال و أجيال من أبناء الجزائر و بناتها..
السيدة وريدة ، امرأة موهوبة بامتياز، انتقلت من تخصص البيولوجيا لتحط رحالها في علم المكتبات المتشعب الفنون و الأذواق، وبالتالي جمعت بين الحسنيين، ووعت بحق مقولة الأصمعي الذي نصح أحد أصحابه يوما بقوله :" ألا أدلك على بستان تكون منه في أكمل روضة، وميت يخبرك عن المتقدمين، ويذكرك إذا نسيت، ويؤنسك إذا استوحشت، ويكف عنك إذا سئمت؟ قال: نعم، قال له : عليك بالكتاب، فلا يخلو كتاب من فائدة تنفع من يعمل بها أو تحذر من أمر ما، كما إنها تعد خير وأجمل جليس وأحسنه وأكرمه وأنفعه للفرد وللمجتمع" .
السيدة وريدة، امرأة موسوعية بحق، تهوى الارتماء في أحضان عالم الكتب الساعات تلو الساعات دون ملل أو كلل، عاملة بنهج أحد العقلاء العرب، الذي يصف حياته على مر سنين العمر فكتب يقول": صحبت الناس فملوني ومللتهم، وصحبت الكتاب فما مللته ولا ملني" .وهذا يذكرنا بقول الشاعر:
وخير جليس في الزمان كتاب *** تسلو به إن خانك الأصحاب
وقال أخر:
أعز مكان في الدنيا سرج سابح *** وخير جليس في الأنام كتاب.
على ضوء تلك المقولات، فالسيدة وريدة، رغم أنها تعلم كغيرها أن العبرة ليست باقتناء الكتب في المكتبات وتصفيفها في الرفوف و الأدراج، على حد تعبير المثل الجزائري " العلم في الرأس وليس في الكراس"، ولكن العبرة بالفهم والمطالعة فيها، فأصبحت من كثرة معرفتها بالكتب موسوعة متحركة بين التخصصات المعرفية المعاصرة و القديمة، تعرف محتويات جل تخصصات الكتب و ما بها من فوائد علمية واجتماعية وثقافية و حتى شرعية ومما تحتويه هذه الكتب من شتى المجالات التي تخدم الإنسان في حياته العلمية والعملية..
وبالتالي نكاد أن نجزم بأنه في "هجرة السيدة وريدة" لأمريكا، تكون قد عملت بتوصيات عائشة بنت الشاطئ رحمها الله في موسوعيتها المعرفية و في جنديتها و عطائها و تربيتها و تضحياتها، لما تفسر الآية 22 من سورة التوبة{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }‏، مركزة على أهم ثمانية دروس هجرة الرسول {ص}، منها أولا بناء المساجد ، ثانيا بعث المؤسسات التعليمية { المدرسة القرأنية}، ثالثا المؤاخاة بين الانصار و المهاجرين، رابعا ربط العلاقة مع أصحاب الديانات الاخرى بمواثيق مع يهود المدينة المنورة، خامسا تنظيف شوارع المدينة ، سادسا حفر آبار المياه، سابعا إجتثاث الفقر بحيث لم يبقى في المدينة فقير مسلم، وثامنا إشاعة الأمن و السلم في ربوع المدينة المنورة". كل هذه الدروس جعلت من مهاجرة جزائرية، كالسيدة وريدة " تزرع روح الثقة في نفوس الأخرين الذين يشتغلون معها رغم اختلاف تربتهم الثقافية و الدينية بينهم، كما سعت بحنكة على شحذ الهمم بعد أن علمتهم كيفية وضع الأهداف وإمكانية تحقيقها وكيفية غرسها في طلبة العلم. كما علمت الجالية الإسلامية في أمريكا عموما فنون التواصل والتأثير في الآخرين وكسب صداقتهم، علمت أيضا الوافدين العرب و هي أمازيغية الأصل، كيف يعتز العربي بلغته ويفهم الإنسان ذاته ويكتشف قدراته لتصبح الحياة لها معنى و الجهد له مقصد، كل هذا حدث في زمن شعر فيه المسلمون في أمريكا بنزول مستوى الأمل والتطور في الأمة الاسلامية خاصة بعيد أحداث 11سبتمبر 2001. رغم تلك المحن و الصعاب التي وقعت على رؤوس الجالية المسلمة ظلما و عدوانا، لكن بلطف الله استطاع المسلمون في أمريكا بصبر و احتساب رص صفوفهم في هيئات و منظمات و جمعيات أهلية فوتت الفرصة على البغاة، وبالتالي وفق الله كوكبة من خيرة المسلمين المهاجرين لرفع التحدي برجال و نساء كل في تخصصه و كل حسب موضعه من طراز هذه السيدة الفاضلة و غيرها كثير..
هنيئا لك، يا أختاه، كمهاجرة بالأجر و الثواب ، لما بذلتيه من جهود جبارة في غرس التفكير الايجابي واستنهاض همم الشباب، والتفنن في تغيير السلوك البشري وتطويره نحو الأحسن أين ما حللت و أرتحلتي، لقد كنت نِعْم المعلمة، و نِعْم المدربة ..
ورحمك الله يا شهيدة القلم وأسكنك الله فسيح جناته، وجعل الله كل خطواتك وحركاتك في ميزان حسناتك.. وبشراك بحديث الرسول (صلى الله وعليه وسلم) حينما قال:" إن الله وملائكته وأهل السموات والأراضين، حتى النملة في جُحْرِها وحتى الحوت لَيُصَلُّون على مُعَلِّم الناس الخير."
سوف تبقين في قلوب كل معارفك حيةً وللأجيال خالدة لتستلهم من أدبك وجميل خصالك ما يعينهم علي الدرب في الطريق الذي سرت عليه، وسوف تبقي تلك المبادئ التي وهبت روحك وحياتك من أجلها نبراساً وتاجاً فوق رؤوس طلبة العلم عموما.
رحمك الله وأكرم مثواك ووفق تلاميذك والمستهدين بنهجك من جاليتنا في المهجر، نحو غد أفضل، و أن غدا لناظره قريب ، "وإنا لله وإنا اليه راجعون".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.