ثمة غنائية عميقة خلاّقة، لكن حزينة، في المجموعة الشعرية الجديدة لمحمد علي شمس الدين، "النازلون على الريح" (دار الآداب 2013). فالسؤال الذي يطرحه الشاعر في مكان ما من نصوصه، "الريح في السفن، ينوح أم يغني؟"، لا يكاد يكترث بجواب محدد، لأن النواح أو الغناء، لن يتغير كثيراً في مضمون الإستعارة، أو معنى الصورة. فالمهم هو بقاء الريح، والإبتعاد قدر الإمكان عن قتلها، أو عن تصفية ما تحمله من دلالات، تتلقفها أشرعة القصيدة، وعلى أساسها، تتحرك صوب برّها، الذي قد يكون بحراً جديداً. الريح يغنّي كأنه ينوح، وينوح كأنه يغنّي. أما الشعر، فيستخدم الفعلين كأنهما فعل واحد، لا سبيل للمقارنة بينهما. ذاك أن الريح سرعان ما يتحول إلى يابسة، ينزل الغائبون عليها، ويستريحون. التأرجح في الريح طريقٌ إلى السماء يقود الشاعر سفينته من عصف إلى آخر، لا يتركها تتجه كما يحلو لها، بحيث أنه يشير إلى نقصها، أو إلى فراغها، قبل أن يملأ هذا النقص، ويعبئ ذلك الفراغ، باللجوء إلى لغةٍ، تساعدها على الشعرنة وعلى السرد في الوقت نفسه. من الممكن القول، في هذه الجهة، إن الشعر في قصيدة شمس الدين، هو الغناء، أما السرد فهو النواح. في بعض الأحيان، يتبادل الطرفان مضمونهما، حتى ينتجا نصاً، ينطوي على قصة شعرية، تبدأ بوصف المكان والزمان، وتحدد موقع الشاعر فيها، ومن ثم تبين العقدة، التي لا تحلّها سوى استعارة، تشبه العويل بفعلها. يتأرجح شمس الدين بين اتجاهين من الريح، قبل أن يحسم قصيدته لصالح التحول من البحر إلى السماء، هناك حيث يناجي ربّه، ويقترب منه، متخلصاً من كل التبدلات الماضية. فبعد أن ينتقم من العالم، بالإنغلاق داخل البيت، "لن أخرج من بيتي/ فليبق الخارج في الخارج/ والداخل يبقى في الداخل"، يقف على الشرفة، عند صلاة الفجر، ويسأل البحر إن كان في مقدوره أن يسمع أصوات موجه. في هذه اللحظة، يكون الشاعر قد تغير من بحّار إلى منغلق بيتي، حتى يصبح شخصاً عابداً، يرتدي ثوباً واسعاً، في وجهه نور، ويده بيضاء. بالقرب منه، يسير صديقه، أو بالأحرى ظلّه، الذي لا يتركه في سيره في اتجاه ما بعد الموت، "أنا أتقدم في زحمة أيامي/ في زحمة سيري/ نحو الله". لكن، على رغم تصميم قصيدته على الذهاب بمعناها نحو المطلق، لا يتردد شمس الدين في تصويب سفينته نحو جهات جديدة، لا علاقة لها بالشمال والجنوب، أو الشرق والغرب، لأنها جهات عمودية خالصة، لا علاقة لها بالأفق، أو بوصلته. تالياً، هي تدل على تبصر الشاعر، وإدراكه لقدرة الإبحار غرقاً على بلورة الذات، وصقلها، بحيث لا تعود مرتابةً، أو مترددة. فلطالما اعتراها شعور بعدم جدوى أي غاية من الغايات، "قدري شكي/ كنت بدأت أحس بالجوع/ وشدتني رغبات شتى/ نحو السير بلا هدف". إلا أن الذات الشعرية، لا تبخل في نصائحها إلى الآخرين، "تمسكوا بقارب النجاة يا أحبتي/ تمسكوا بموتكم/ وسافروا/ وسافروا". الموت هنا، ليس موتاً أفقياً، بل عمودي، لأنه، بحسبما جاء موضوعاتياً في قصيدة "الرحلة إلى الغرب"، هو لحظة خصوصية، من ناحيتين. الأولى، هي ناحية الشاعر، أو السارد في النص تحديداً، الذي يستمر في البحث عن المخفي، من دون الرغبة في الكشف عنه، والثانية، هي ناحية العالم الغيري، الذي يتمسك بغيابه، والسفر فيه. وعليه، يتواطأ الباحث عن الغائب مع الغائب نفسه، كي يذهب الأول إلى ربّه، والثاني، إلى حتفه، كأنهما يصنعان جهاتهما الجديدة من الإختفاء، والسفر فيه. لكن، سواء أكان التواري هو الجهة، أم الرحيل، فالشاعر، يصل في نهاية قصيدته إلى ما هو أبعد، بحيث يستعين بالمعنى الديني، أو العلامة الخرافية، كي ينجز استعارته المسرودة. بذلك، يبدو كأنه يصلّي لرغبته، ويتعبد لمجازها. قمم غير مرئية ينحو شمس الدين إلى اصطلاحٍ، يفيد المناداة، والدعوة، والإرتفاع بالمعنى، مثل الريح، إلى قمم غير مرئية في القصيدة، التي من شأنها أن تكون محطة للإنتقال إلى فضاء واسع، تُمَحوره قوة مطلقة، لا تبالي بوجه الذات أو صورتها، بل تردمها، كي لا ينظر الشاعر إليها، ويضل طريقه نحو غايته الأسمى. لهذا السبب، يرسم وجهه بالإخفاء: "رسمت وجهي من تراكم الثلوج فوقه"، ويخطّ جسمه بالخفة: "رسمتني كأنني أسير في الهواء/ رسمت في الأثير فتنتي". ومن الضروري الإشارة إلى أن إزالة الوجه الخاص، بالمحو، أو بإسمه الإجتماعي، أي العزلة، هو شرط التعرف إلى كل الوجوه، والتفرس في ملامحها، بهدف تأليفها انطلاقاً من صلتها مع مرآة الموت وربه. فالمسافة، التي تفصل بين الشاعر، في عزلته، والآخر، في يابسته، هي مسافة شاسعة، لا بسبب طولها أو عرضها، بل لأن المعجزة هي مفتاح اجتيازها، "بيني وبينك نصف ثانية/ لأقطعها/ سيلزم أن تكون الأرض خاوية/ ويلزم أن تقوم قيامة الأشياء". على هذا التعسر في تعدي الفاصل "بيني وبينك"، يبدو كأن الآخر غير موجود البتة، ولا سيما أن الله يحل مكانه، فيكونه، لأنه لا يكون. الحلول نفسه ينسحب على ذات الشاعر، التي تنفصل عن صاحبها، كي تستحيل مرآة المطلق، وعلامة على حضوره. ففي إحدى القصائد، يتوجه الشاعر إلى نفسه بالقول: "فاقترب مني قليلاً كي أراك/ وابتعد إن شئت حتى منتهاك/ ليس ما يوجب أن نبقى معاً/ حمل الراعي/ وشيطان الهلاك". في القصيدة الأخيرة، يعود الشاعر ضمناً، وفي وقوفه على الأحوال السورية الدموية، إلى سؤاله عن النواح والغناء، ويكتب أن لا فرق بين الإثنين، بين صوت الغراب وصوت المغني. إلا أن ذلك لا ينفي أن "الحياة أهم من الموت"، وأن "يا ليل" المغني "أجمل من طقطقات العظام". لكن، بعيداً من الجمع بين الفعلين، يبدو نص شمس الدين الشعري، كأنه لا يبدأ ولا ينتهي موضوعاتياً، بسبب هجسه في مناجاة المطلق، والتوجه إليه بالقصائد واستعاراتها: "هكذا نبدأ من حيث انتهينا/ لا لنا شيءٌ ولا شيء علينا". فباللغة، التي ترجع إلى شكل القصيدة الكلاسيكية حيناً، ومضامينها أحياناً أخرى، يذهب محمد علي شمس الدين بشعره نحو برٍّ، يؤلّفه أنين الرغبة، وهمهمات الصلاة، وصدى الموت، الذي يصبح احتضاره، بفعل المعنى الديني، مجرد فعل انتقالي بالشعر إلى أرض المطلق، أي إلى سمائه. (*) عن جريدة النهار.