أطلعتنا الشعرية العربية بالروّاد والآباء وقد حظوا بالقراءة والمباحثة والدرس، نالوا القسط، حازوا الاهتمام، وانشغفوا بالضيافة، كان منهم الكثير والكثير منهم تصدروا، تبوّأوا، تزعموا، فكانوا هم الرواد الأفذاذ، الأساطين، هم الرواد الآباء وغيرهم ظواهر وأطباق سلاطة ومقبلات.. لا تذكر الشعرية العربية دونما أدونيس والماغوط، لا تذكر دون أنسي الحاج وشوقي بزيع، لا تذكر دون درويش وبنيس وأحمد عبد المعطي حجازي، لا تذكر دون هؤلاء وهؤلاء من اليمين إلى اليسار، من السلطويين إلى المتمردين، من زمرة الوسط المحلي التكتيكي ومن زمرة اللاشيء والعدم وكتابة الموت والتلاشي.. لكن شاعرا معزولا، معتزليا، عازلا ضد هؤلاء وأزمنتهم وأشغالهم واستراتيجياتهم من مثيل أحمد مطر سُحق تحت وطأة المرحلة وملبوساتها، تحت عناوينها ورموزها وأشكالها، يملك أحمد مطر من النجومية والشيوع ما لا يملكه أحد من هؤلاء، ليس في القول هذا جزافية ومقامرة.. وربما كانت شخصية أحمد مطر ذاتها لا تلعب الدور ولا تمثل ولا تروم الزلفى والتملق.. لكن لأحمد مطر مواهب وبراعات وحسن إتيان للكلمة، تنقص وتتضاءل أو هي تنحف وتتحجم، فلا تسمن من جوع ولا تغني من فراغ كما يحدث عند غيره. وحظ أحمد مطر تعيس، فارغ لا نفخ فيه، لا أعلام فيه ولا ''دستة'' معجبات ولا سفراء متأنقين بحرير السلطة الشائك.. السؤال في أحمد مطر، سؤال راودني دائما، مرفوض، مرفوض، مرفوض هو مطر رغم خفة ظله السياسي، لا غرائزية موضوعاته، دقته في الهدف وفي الشباك وفي الوقت وفي العنوان، لا يخسر عليه النقاد وأهل الجشع الأكاديمي نقطة أو فاصلة أو علامة استفهام، إن النقاد أنفسهم يتعاطون الحبوب المقوية للشعراء الصغار أو سيستلمون خنوعا ووجاهة وطمعا في الآباء أو يخشون أحمد مطر الموصوف بالثائر، العنيد، السينيكي ''cynique''، إن المنطق الأسلم في ظاهرة أحمد مطر يكون كالآتي، لا يوجد شاعر جيد وشاعر ركيك، بل يوجد شعر جيد وشعر ليس كذلك، بيد أن اللامستساغ حقا أن يغطى على أحمد مطر أو يطرد من الحظيرة الشعرية العربية أو تكال في حقه كلمات التصغير والتحقير والاستبعاد، لأنه يسرق الجمهور والناس والسامعين، فحتى وإن كان ثم شعراء كثر لهم الجمهور أو الإعلام أو السلطة، فإن أمة الشعر لم تعد تلهث وراء شاعر ولا يستميلها مجنون المدينة أو القرية ولا يوقعها في الغرام ساحر الألفاظ والتعابير، وليس لأحمد مشكلة في ذلك وهو يتسبب في الكساد، والبوار والفوات في فرص الآخرين ومسالكهم الضيقة نحو الدرب الآمن، درب الشهرة والسلطان والألمعية، يحاصر أحمد مطر بالمقاطعين والبوابين والحجاب والزبانية، قسم منهم يعيشون في الضحالة النقدية والفشل النصي والعجز الإبداعي، ولذلك فهم يغيّرون الوجهة عكس الريح، عكس أحمد مطر، عكس ريحه، ريح حنظلة التي تلقم المرارة في فمّ السلطة العربية، من له مصلحة في أن لا يطير شاعر جديد في سماء العرب الداكنة، من له مصلحة في أن تبتر ريشة حنظلة، لسانه، دعاباته، راجمات صواريخه فلا تؤدي إلا مفعولها الحارق، الكاوي، المسكت لصوت السلطة الهادر، الراعد، الذي يرمي بإسرائيل في البحر، أو يبددها في البر أو يدفنها في حيفا إن هي توقعت معركتها في بيروت. جاء أحمد مطر من الغضب، غضب من، وغضب على، جاء من غضب مغاضبا السلطة البور ورجالها الجوف وأرضها اليباب، تسلل إلى الذائقة العربية عبر شريط كاسيت في أول التسعينيات، خاطب مراهقتنا الفضة وهي تحاول أن تعي ما يحدث، أن تتسيس إلا قليلا، أن تنتف ريش النعامة العربية، كان الوقت وقتها حقا هو وقت اللافتات، شاعر يطلع علينا هذه المرة لا من الدواوين والمفاخر المطبوعة بل من مسجلة راديو، من كاسيت 60 أو 90 دقيقة، الصوت فخم، رنيم كأنه صوت عبد الباسط عبد الصمد، أو الشيخ محمد رفعت أو الصديق المنشاوي مرتلا علينا يوسف في بئر البترول، نص نثري لا شعري، لكنه مانيفست ومنشور تحريضي غاضب، عن عرب لا يجيدون سوى الرثاء، سوى الترحّم على سناء -سناء مُحيدلي-، لافتات، لم نفهم القصة في شاعر الكاسيت، فيمن يروج له، فيمن ينسخ من الكاسيتات عشرات ويهيم بتوزيعها، فذاك شأن من شؤون المحرومين سياسيا المقهورين تحت ''صبّاط'' الإستبداد الشرقي الرشيد وغير الرشيد، بدا الشريط منشورا سريا، خريطة ثورة، انتماء إلى تنظيم شعري غير مرخص له، أعجبنا الأمر والشأن وجمالية المرحلة، لم نبحث في الفن وبصماته، لم نسرف من الجهد كي نموضع أحمد مطر من أي مدرسة هو أو طريقة أو اتجاه أو وطن، سألنا فيه وبحثنا وجرينا وتورطنا في اللمسة المطرية، مكننا أحمد مطر من الشعر، التمكين كان لوحده نعمة الرب، إذ أن لحظتها لم تكن الثانويات والمتوسطات على بال وعلى خاطر حتى نولع بشعريات أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وسامي البارودي.. كأنهما خيطان هما خيط واحد في اللعبة الشعرية موضوعاتيا، الحب والسياسة، لكن في مطر هاجس يدمي وشعور بالغبن ووطأة بالإنسحاق وإكراهات، هي مرحلة السياسي وظروفها الخطرة، ظروف خطرة تحدق بالأمة العربية - في المفهوم شكوك - التمدد الساداتي في الثقافة والوجدان، في الملبس والمعيش، في المأكل والذوق، زمن عربي رديء عنوانه الكبير هو الحاكم العربي، لقد تخصصت الكتابة المطرية في لافتات، وكل لافتاته 1 و2 و3 و4 و5 في النقد الجريء، الجارف، النزاع إلى الفضح والتعرية والتكذيب لتهويمات الحاكم وهراءاته، لغته وشكله، سيله العرمرم من الأقاويل والشعارات، بهتانه الطويل كفيلم أمريكي طويل بتعبير زياد الرحباني.. مِمَ تخشى؟ الحكومات التي في ثقبها تفتح إسرائيل ممشى.... لم تزل للفتح عطشى.... ستزيد النبش نبشا! وإذا مر عليها بيت شعر.. تتغشى... لم يسر أحمد مطر جنب الحيط ولا بمحاذاة الهدوء والسكنى الهانئة، فكونه شاعرا سياسيا تخير الموقع والأداة والطريقة، لا تعالي نخبوي، لا برجوازية زائفة ولا واقعا رفضويا في الظاهر، إن أحمد مطر يشحذ سكينه في الليل والنهار في وضوح النهارات وفي الغسق الداجي، شحذ السكين لتصويبه نحو الحاكم ونحو إسرائيل ونحو أمريكا ونحو البترول ونحو النفاق والتدليس والخيانة، هي وظيفة هذا الشاعر، شاعر الموضوع والموضوعية. يقوم أحمد مطر في كل أعماله الشعرية بعمل نظمي، مغلق، محكم الرتاج، ممتنع سهل، مستدرك غير ملحوق، النظم الصغير عبر تقنية الأقصوصة ممنوحة له كهبة إلهية، فلسفته في الشعر معلنة، فأحمد مطر لم يقل يوما إنني أحدّث عصري وأحدثنه أو أنا مبتدع مذهبية أدبية صرفة وشعرية مابعدية من المابعديات إياهن، بل له منهج واختيار ومصدر تحكم نادر، له قاموسه الصغير، له نظرية استعمال قوية. يفسر أحمد مطر ما اهتدى إليه في تجربته هذه كونه قدم من المهرجانات الخطابية تلك التي تعود إلقاءها في الناس، تلك المهرجانات التي كانت تستهلك صنوفا وألوانا من الكلام العفوي الذي يجُبُّ ولا يجُبٌّ ما بعده وماقبله، لكن الكلام النثري - السياسي- يسعُ التطويلات والاستطرادات كما هو الشعر العمودي في أغلب بحوره وأمواجه، إلا أن القصيدة كبناء وكمعمار، لا تتسع لمن أراد أن يمزج العفوية البلاغية بالنظم بالهدف. بدت المعادلة تحتاج إلى تمرينات، الخطابة وفنون إلقائها، فضيلة السماع العربية وحضارية الأذن عند المتلقي العربي، أصالة قصيدة التفعيلة وإمكاناتها الفائقة في التأثير، الإيجاز، اللفظة السهلة الدالة، ثم الشحنة الانفعالية المسترسلة. كانت موهبة وقصيدا في النبوغ والجهبذية تلك اللافتات الغاضبة، الساخرة، المرحة، النكتة والأقصوصة والإخبار المشوّق، والسرد بالسجع وبالطباق والمجانسة، كانت هي عناصر الموهبة المطرية، لمسة الفرادة بائنة عبر الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية. ابن شط العرب قبالة البصرة حيث قرية التنومة ولد على شفا نهر العراق، البساتين والجداول وسعف النخيل، وداعة الأهل والصبا، ولد وهو ينتقم ويحذّر ويحرّض ليس به سنة من نوم أو نأمة من عين، طلق الغزل في عفيفه، إرباكات المغنم وجور الحاكم، وفي الكويت عاش في صداقة الفن وآلامه مع ناجي العلي، كانت التجربة في جريدة القبس ثرية، أمكنته من إظهار دربته ومراسه، مراس شعري شيّق له الدعابة وعبقرية الإضحاك له النفثة والنفحة واللفتة وكل الفاءات وأخواتهن، مارس القص والرسم الكاريكاتوري والنثر الساخر الانطباعي، ولذلك تجربته هكذا مارة مرور الكروم على حقول عدة، ليس لأحمد مطر الشبكات وقنوات التحريك ومضيفات الاستقبال، لكن له جمهور من معدن نفيس، معدنه النفيس!.. a_maouchi @ live. Com