هزمَنا المتعصبون والجهلاء والحمقى، الذين أثاروا الفتنة وزرعوا بذور البغض والمرارة بين الشعبين بسبب المنافسة الكروية، وهزمَنا إعلام الإثارة الذي ظل همه الأول في الأسابيع الماضية هو تأجيج الفتنة، في غيبة الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية أو حتى المهنية، وأمام ضجيج الغوغاء ومزايداتهم وإزاء عمليات الشحن المريض التي مارستها الأبواق الإعلامية، فقد تحولت مباراة رياضية إلى معركة عبثية بين الشعبين الشقيقين، قطعت فيها الوشائج الحميمة التي تربط بينهما، وداست الأقدام على القيم النبيلة التي تتخلل نسيج العلاقات التاريخية والنضالية التي جمعتها، وأهدرت الأولويات التي ينبغي أن تحتل مكانها لدى الرأي العام في البلدين. انتصرت ثقافة المتعصبين والجهلاء والغوغاء، وضاع صوت العقلاء الواعين، ليس فقط برسالة الرياضة وقيمها الأخلاقية والتربوية، ولكن أيضا بحقيقة ما بين الشعبين المصري والجزائري، وحقيقة الأمة التي ينتمي إليها هؤلاء وهؤلاء، الأمر الذي حوّل حدث المباراة إلى فضيحة مجلجلة، أشعرتني بالاشمئزاز والقرف، حتى تمنيت أن تُلغى المباراة وأن تُشطب كرة القدم على الأقل من المنافسات الرياضية في العالم العربي، طالما أنها صارت سبيلا إلى إشاعة الخصام والكراهية والنقمة بين الشعوب. لقد استنفر الإعلام الجماهير في البلدين، حتى أصيبت القاهرة على الأقل بما يشبه الشلل يوم فتح الباب لبيع تذاكر المباراة من خلال بعض الأندية والمنافذ، فتجمّعت الحشود في الصباح الباكر في طوابير طويلة لم تعرفها المدينة في أي مناسبة أخرى، وتعطل المرور، وتجمّعت أرتال سيارات الأمن المركزي التي اصطفت على جوانب الطرق تحسبا لأي طارئ، وكانت كل الدلائل مشيرة إلى أن عاصمة «أم الدنيا» مقبلة على حدث جلل، لا يخطر على بال أي عاقل أنه مباراة في كرة القدم بين بلدين شقيقين، حتى وضعت يدي على قلبي تحسبا لما يمكن أن يحدث أثناء المباراة وبعدها. صحيح أن الإعلام المريض لعب دورا أساسيا في تأجيج المشاعر وتعبئة الناس وتحريضهم ضد بعضهم البعض، وأنه نجح في أن يحول الإخوة الأشقاء إلى إخوة أعداء، ولكننا ينبغي أن نفكر مليا في أسباب ذلك النجاح، والظروف التي دعت الجماهير العريضة إلى الاندفاع في الاستجابة للتحريض والإثارة. بكلام آخر، فإن أسباب التحريض التي تراوحت بين الإثارة والوقيعة مفهومة، لكن حالة القابلية للتحريض، والاستجابة السريعة له بحاجة إلى تفسير يتجاوز مجرد عشق الناس لكرة القدم. في هذا الصدد أزعم أن الفراغ الهائل المخيم على العالم العربي المقترن بالانكفاء الشديد على الذات يشكل عنصرا مهمّا في تفسير تلك الاستجابة، إذ قد يعن للباحث أن يسأل: إذا لم ينشغل الناس بكرة القدم وينتصروا أو يتعصبوا لفرقها ونواديها المختلفة، فبأي شيء ينشغلون إذن؟! إن في مصر 24 حزبا سياسيا مصابة بالشلل الرباعي، لكن أكبر حزبين في الشارع المصري هما حزبا الأهلي والزمالك، وإذا صح هذا التحليل، فإنه قد يزود أنصار فكرة المؤامرة بحجة قوية تؤيد موقفهم، الأمر الذي يستدعي السؤال التالي: هل يُستبعد أن يكون من بين أهداف ذلك الشحن والتحريض إشغال الجماهير بمباراة المنتخب المصري ضد نظيره الجزائري، أليس من شأن ذلك أن يصرف الناس عن قائمة الهموم الطويلة، من الزبالة والسحابة السوداء، مرورا بالغلاء والفساد والبطالة وانتهاء بحكاية توريث الحكم وتهويد القدس والتواطؤ الأميركي الإسرائيلي والتهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي المصري والعربي؟ سواء كان الفراغ هو السبب في اللوثة الفاضحة التي حلّت بنا، أو كان للسلطة يد في محاولة إلهاء الناس وتخديرهم، فالنتيجة واحدة، وهي أن تلك المباراة البائسة كانت سببا في تسميم العلاقات بين الشعبين المصري والجزائري، لا يغير من هذه الحقيقة أن يفوز هذا الفريق أو ذاك، حيث لا قيمة ولا طعم لفوز أي فريق في المباراة إذا ما كان الشعبان قد خسر بعضهم البعض، وخرجا بعد المباراة وقد تمكنت المرارة من كل الحلوق. إن الأمة التي تنساق وراء متعصبيها وجهلائها تتقدم حثيثا على طريق الخزي والندامة (*) فهمي هويدي كاتب ومفكر إسلامي مصري http://fahmyhoweidy.blogspot.com