من دلائل التّطوّر الحضاري عند الأمم و الشّعوب تكريم أهل الإبداع ، و المتميّزين ، و المفكّرين ، و العلماء و الأدباء ، و النّوابغ و المنتجين في شتّى مجالات الحياة التي تنهض بالمجتمع الإنساني و تزيد من تطوره و نهضته و رقيّه .. و إنّ أول تكريم و أهمّه و أرقاه هو تكريم سيّدنا آدم عليه السّلام حينما أمر الله تعالى ملائكته بالسّجود له تشريفا لعلمه ، و تنبيها لهم أنّ منزلته و سموّه إنّما في علمه الذي لم يكن موجودا عندهم ، كما قال سبحانه { و علّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّتنا إنّك أنت العليم الحكيم ، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون ، و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ، إلاّ إبليس أبى ، و استكبر ، و كان من الكافرين } [البقرة/31-34] . هذا و قد عرفت الأمم الرّاقية عبر تطوّرها الحضاري قفزات نوعية ، و خطوات هائلة من خلال احترامها للمتميّزين ، و المخترعين و المنتجين فيها ، في كل فنّ من فنون الشهود الحضاري ، الديني و الأدبي و العلمي .. فمن يقرأ التاريخ قديما و حديثا يقف على مشاهد حضارية صنعها رجال متميّزون ، من خلالهم انطلقت دولهم في السّبق الحضاري حتّى صارت هذه الدّول رائدة في كل شأن من شؤون الحضارة الحديثة ، و أكثر من ذلك حقّقت نموا اقتصاديا متعدّدًا في استثماراته بفضل احترام هذه الدول عقول أبنائها و أفكارهم و نبوغهم . على سبيل المثال ، من الدول التي اشتهرت في ظرف قياسي قصير ، دولة اليابان التي خرجت من الحرب العالمية - بعد القنبلتين النوويتين الأمريكيتين - أشد ما تكون قوّة في صناعة اقتصادها القائم على تطوير التقنيات الذي أذهلت به العالم ، و الذي سيطرت به على السوق الأمريكية في عقر دارها ، و هو ما جعلها تتوجّس منها خيفةً .. لقد وصلت اليابان إلى هذه النتيجة ، و حقّقت تفوّقها باحترامها للعلماء ، و دعمهم ماديا و معنويا ، و فتحت - أمام نبوغهم و تميّزهم - مجال الحرّيّة العلمية حتّى يستثمر في التنافس في جميع الميادين الحياتية . قد تكون مساحة الأرض عند اليابان أصغر و أقلّ [377 944 كلم مربع] لكثافة سكّانية أكثر ، و في المقابل تكون -كالجزائر مثلا - أكبر و أكثر :[2 381 741 كلم مربع] و لكثافة سكانية أقل ، و لكن العقول إذا كانت كليلة ، فإن هذه المساحات الكبيرة تصير صغيرة لأنها لم تجد من يستثمر فيها ، رغم غنى ثرواتها الظاهرة و الباطنة .. إنّ تعداد السكان في اليابان الذي يقترب من المائة و الثلاثين مليونا ، في مساحة أصغر من الجزائر بسبع مرّات تقريبا ، و مع ذلك لا مجاعة و لا فقر ، بل فائض يزيد على الفائض الأمريكي في بلاد ليس فيها بترول ، و لا فحم ، و لا حتّى خام الحديد ، و لكن فيها أثمن كنز " الإنسان " ، و بالتالي فإن المعجزة اليابانية انطلقت من مبدأ تقديس العلم و احترام العلماء ، و هو ما يناقضه الواقع التّعليميّ السّلبي عندنا تماما ، حيث لا نجد أي اهتمام بالعلم ، و العلماء ، و المتميّزين ، و الدليلُ هو التخبّطُ الخطيرُ و المريبُ الذي تعرفه المنظومة التربوية ، و التعليمية في بلدنا ، هذه الأخيرة التي تشهد تراجعا على كل المستويات ، حتّى صارت تفقد حصانتها الأخلاقية ، و السّلوكية ، و القانونية ، حيث وصلت الحال إلى المتاجرة بها كأنّها عبد في سوق الرّقيق !! .. أعجبني – للنهوض بالتّعليم في ولاية الجلفة – الموقف الطّيب و الحضاري من رجل الأعمال أحمد مومن ، الذي أسّس جائزة الامتياز العلمي الهادفة إلى إبراز المواهب العلمية و بعث روح التنافس بين الطّلبة ، قصد الارتقاء المعرفي و العلمي ، و كذا إفساح المجال أمام الطّاقات العلمية ، لإبداع أكثر ، و تميّز أفضل ، يساهم في المستقبل في تحقيق نهضة حضارية تنتشل الشباب من الضياع ، و القنوط ، و اليأس ، و تغرس في نفوسهم الأمل الباسم ، و هذا ما ستحقّقه هذه الجائزة بإذن الله تعالى ، خاصّة إذا وجدت من يقتدي بمؤسّسها في الولاياتالجزائرية الأخرى . و في الضّفّة الأخرى أفزعني سلبية مديرية التربية في تعاطيها مع الحدث الإيجابي لهذه الجائزة ، حيث غابت عن المشهد ، بل كادت أن تسقط المشروع من أساسه ، و هو ما أحدث فزعًا ، ليس عند رجال التربية و التعليم فحسب ، و إنّما عند أغلب المهتمين بالشّأن التربوي و التعليمي و لو من خارج دوائرها .. و أكثر من ذلك تزامن الحدث مع مهرجان محلّي يُعْنَى بالموسيقى و الأغنية و الرقص ... يكرّس للرّداءة القاتلة ، و الغباوة الحضارية ، حيث تقف بقوّة الدّعم المادي و المعنوي في وجه الامتياز العلمي . تحيّةُ احترامٍ و تقديرٍ لمن يستثمرون في الإنسان فكريًا ، و علميًا ، و حضاريًا ، و على رأسهم رجل الأعمال النبيه أحمد مومن ، حَمِدَ اللهَ خصاله ، و أمّنه في حاضره و مستقبله .. (*) كاتب و باحث و داعية