للمرّة الثانية والستون يحتفل بنو صهيون بذكرى قيام كيانهم الغاصب، وللمرة الثانية والستون تمرّر السكين على الجرح الفلسطيني الذي مازال ينزف دما بعد أن ضاعت الأرض ووئدت المقاومة، وانقسم الشعب الواحد بين زعامات وقيادات تتصارع من أجل مناصب وهمية، وتنازلت ماضية الى نسف ورقة التوت الأخيرة التي تستر القضية الفلسطينية.. قيام الكيان الصهيوني لم يأت هبة من السماء، بل إن الصهاينة انتزعوه غصبا بعد قرون طويلة من التخطيط والتدبير والمكر والابتزاز والاستعطاف، ويخطئ حتما من يعتقد بأن وعد بلفور وحده هو الذي صنع إسرائيل، لأن صانعها الفعليّ هم رواد الفكر الصهيوني الأوائل قرونا قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام ,1799 حيث خطّطوا وحضّروا لإنشاء الدولة اليهودية على أرض فلسطين واختاروا منذ البداية العنف والسلاح لتحقيق هذا الهدف وكلفوا في البداية عصابات بدأت ترهب وتغتال وتصادر أراضي الفلسطينيين.. وواصل اليهود يتوارثون هذا العنف والإجرام مستغلين المتغيرات الدولية التي صبّت في صالحهم خاصة محارق النازية ليحققوا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حلمهم ويحتلوا فلسطين ويعلنوا قيام دولة إسرائيل.. تأسيس دولة إسرائيل تحقّق أوّلا بفضل جهود اليهود ونشاط الحركة الصهيونية العالمية، لكن هذه الدولة، ما كانت لتستمر وتكبر وتنمو لولا تواطؤ كبار العالم بدءا ببريطانيا التي منحتهم وعد بلفور وأقعدتهم مكانها بعد اجلاء قواتها من فلسطين، ثم ألمانيا التي ضخّت عليهم المال من خلال تعويضات ما يسمى بالمحرقة، ففرنسا التي حصّنتهم ببناء ترسانتهم النووية السرية، والولايات المتحدةالأمريكية التي كانت أول دولة تعترف بميلاد هذا »اللقيط الشاذْ« وأكثر الدّول حماية ومساندة ودعما للصهاينة، حتى أن إسرائيل التي تتجاوز عقدها السادس ما زالت لم تفطم من حليب أمريكا.. إسرائيل تحتفل هذه الأيام بذكرى قيامها، والفلسطينيون يستعيدون نكبتهم وهم يقفون على تلة هزائمهم ونكساتهم وضعفهم وخيانات بعضهم وخلافاتهم وانقساماتهم.. بل إنهم يستعدون ذكرى الهزيمة الكبرى وهم في أسوأ وأضعف حال بعد أن ضاعت الأرض وتفتّت ما تبقى من فتات بين فتح وحماس اللتان تتصارعان من أجل السلطة الوهمية والمناصب والمزايا، و»ترفِسان« في غمرة صراعهما هذا، المقاومة وتنسفان الحقوق والثوابت، وطبعا تستغل اسرائيل هذا الصراع والانقاسم أحسن استغلال لسرقة الأراضي وتوسيع المستوطنات واستقطاب المهاجرين اليهود وبناء الهياكل والمؤسسات الدينية على أنقاض دور العبادة الخاصة بالمسلمين وعلى رأسها مسجد الأقصى. ذكرى قيام إسرائيل عادت لتجد شعرة معاوية بين حماس وفتح قد انقطعت، ومفاوضات ما يسمى بالسلام توقفت، والمقاومة التي كان يعوّل عليها في خبر كان، أما المحاولات الأمريكية لدفع قاطرة السلام، فهي تحمل بذورالفشل بين ثناياها، كما أنها لا يمكن أن تحقق في يوم من الأيام الحلّ العادل كون هذا الراعي أوالوسيط (أمريكا) لا يتسّم بالحياد، بل يفصّل الحلول وخطط التسوية على مقاس إسرائيل، ويفرض سياسة التهديد والترغيب على الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم. طول عُمر إسرائيل استمرت الهزائم والنكسات الفلسطينية والعربية واستمر التواطؤ الدولي، لكن هل الذنب في ضياع فلسطين وحقوق شعبها تتحمله الدولة العبرية الغاصبة التي جمعت شتات أبنائها وأخرجتهم من الغيتوهات القذرة والأحياء الحقيرة عبر أرجاء المعمورة وبنت لهم دولة وانتماء؟ أم هو ذنب كبار الكون الذين يحمون ظهرها ويبرّرون جرائمها ويكيلون القضايا بمعايير مغشوشة؟ أم هو ذنب العرب الذين جردوا أنفسهم من أبسط وسائل دفاعهم وهي الوحدة حتى تفرقوا وذهبت قوتهم وأصبحوا أقرب الى إسرائيل من علاقاتهم من بعضهم البعض؟ في الواقع الجميع مشارك في صنع مأساة فلسطين واستمرارها، والحل لن يكون إلا بتحرك عربي ودولي جاد ونزيه، وقبل ذلك باسراع الفلسطينيين الى استعادة وحدتهم ولما لا مقاومتهم التي حتى وإن عجزت عن استعادة الأرض في هذه الأوقات العصيبة، فهي على الأقل تعكر صفو عيش الصهاينة وتحول دول استقدام يهود جُدد بل وتدفع الى الهجرة العكسية كما حصل في سنوات الانتفاضة وحرب لبنان.