من اجتماع باريس إلى مؤتمر باليرمو، تنتقل الأزمة اللّيبية بحثا عن حلّ يتم انتظاره منذ سبع سنوات دون أن تظهر في الأفق بوادر انفراج، رغم أن الفرقاء اللّيبيين يوقّعون على مبادرات التسوية المطروحة ويتعهّدون بتطبيقها، لكن بمجرّد أن يعودوا إلى بلادهم ينسون الأمر ويواصلون تجاذباتهم التي تدفع نحو مزيد من الانسداد والتّصعيد. لمّا جمع الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون في ماي الماضي بباريس الشخصيات المهيمنة على المشهد اللّيبي حول طاولة حوار واحدة، ووقّع الجميع على اتّفاق سلام تضمّن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في العاشر من ديسمبر 2018، اعتقد كثيرون بأن الأزمة اللّيبية تكتب آخر فصولها، وبأن ساعة الإنفراج اقتربت، لكن مع مرور الأسابيع والأشهر بدا واضحا بأن اتّفاق باريس سقط في الماء ولن يطبّق أبدا، إذ تفاقم التوتّر السياسي، والتهب الوضع الأمني، حيث شهدت العاصمة طرابلس صيفا ساخنا بفعل المواجهات المسلّحة التي خلّفت عشرات القتلى والجرحى وأثارت أجواء رعب أرغمت الكثيرين على الفرار من ديارهم. وقد عكست هذه الأجواء المشحونة مدى تعقّد الأزمة اللّيبية، كما أظهرت بأن أطرافا خارجية تتجاذب هذه الخيوط ولا تدع فرصة لتفكيكها لأهداف مرتبطة بمصالحها الخاصة. إتفاق باريس الذي هلّل له كثيرون، واعتبروه طوق النّجاة بالنسبة لليبيا، انتهى إلى الفشل الذّريع، وقد قام مؤتمر باليرمو، أمس، بنعيه وتأبينه، وعلى أنقاضه وضع المجتمعون بصقلية الإيطالية أسس اتفاق آخر يتضمّن مبادرة حلّ ومواعيد جديدة للانتخابات، وكالعادة، رجع الفرقاء كلّ إلى موقعه في ليبيا، من يهيمن على المنطقة الشرقية عاد إليها، ومن يسيطر على العاصمة رجع إليها، والشعب اللّيبي الذي يترقّب ساعة الفرج، تراوده شكوك كبيرة في إمكانية تطبيق أي اتفاق جديد، بالنظر إلى فشل كل مساعي التسوية الخارجية منذ سبع سنوات، ولإدراكهم العميق بأن الحلّ الحقيقي لا تهديه باريس، ولا تمنحه روما، ولا حتى دول الجوار رغم صدق نواياها. الحلّ بأيديهم دون غيرهم، فما «حكّ جلدك غير ظرفك» لهذا من الضروري أن يحاط الاتفاق الجديد بوفاق حقيقي بين أطراف الأزمة اللّيبية، والوفاق هذا لن يتحقق إلاّ لمّا تقتنع هذه الأطراف بأن الولاءات للخارج، والتدخلات الأجنبية، هي بلاء ليبيا، ولولاها لتمّ تطويق الأزمة في بدايتها. على الأشقاء في ليبيا أن يدركوا بأن التدخلات الخارجية وتحت أيّ عنوان، تعمّق الخلافات وتوسّع الشرخ الذي بات يهدّد حتى جغرافية البلاد، لهذا عليهم أن يراجعوا حساباتهم، ويجلسوا في الداخل حول طاولة حوار موسعة، وحتما سيجدون المخرج الحقيقي لمعضلتهم، فليبيا في كلّ الأحوال تسع كل أبنائها.