حينما قدّمت لي الشاعرة صبيرة قسامة مجموعتها الشعرية يشكلني كما يهوى تذكرت أول لقاء بهذه الشاعرة، وكان ذلك قبل بضع سنين بمكتب فرع الاتحاد، وقد كنت أستمع إليها وهي تقرأ نصها بصوت خافت رخيم يصارع جاهدا لإلقاء قصيدة قوية البناء متينة الشكل، كيف لا، وهي تنحت من النبع الأصيل وتنهل من المنطلق الأول، فكانت لغتها رصينة قوية تحاكي القصائد العصماء القديمة التي أبدعها امرؤ القيس وزهير وعنترة العبسي...فهجست في سريرتي حينما وقلت أين كانت هذه الشاعرة؟ ومن أين جاءت؟
تقديم: أ - منير مزليني لقد أبدت حينها من النضج الشعري ما لا يضع مجالا للشك في قدرتها الشعرية على التشكل والبناء في مجال القصيدة العمودية..وكان علي حينها بعد الثناء على نصها إبداء بعض الملاحظات فيما سمعت، من باب سد رياح الغرور من جهة، وربط وثاق الرصانة والثبات من جهة ثانية..وأذكر أني لاحظتها في نقطتين.. الأولى: متعلقة بالإلقاء إذ لم تكن الشاعرة تملك من الصوت ما يمكن حمل ثقل قصيدتها. الثانية: أنها شاعرة تأتي من بعيد حتى لا أقول من قديم، فقاموسها وبناؤها بل حتى إيقاعات نصوصها قديمة ومشكلة بحيث ترصد وتحاكي قصائد الأولين بناء وإيقاعا، إلى درجة أنك حينما تستمع إلى قصيدتها تقفز إلى ذهنك إيقاعات وأجواء قصيدة أخرى سابقة للخنساء أو امرؤ القيس أو أبو تمام وغيرهم من الرعيل الأول من الشعراء. نحن نعرف أن البحور واحدة وجوازاتها واحدة إلا أن استعمالاتها شخصية فهي مثل البصمة، وكما يقول النقاد: «الأسلوب هو الشخص»، فلكل أسلوبه ونفسه وإيقاعه..فكل الشعراء القدامى تقريبا كتبوا على البحر الطويل، لكن لكل فيه نفسه وأسلوبه، فالطويل عند امرئ القيس ليس هو عند زهير ولا هو نفسه عند أبي تمام أو المتنبي أو أبي نواس.. لكني خشيت حينها أن أثقل عليها بالنقد والملاحظة وهي في أول العهد، وركزت على التشجيع والإثراء لكن اليوم، وبعد عقد من الزمن وما ينيف التجربة نضجت وبات لشاعرتها ديوانا وهي تنشط بكثافة في الوسط الإعلامي وتشارك في المنابر التنافسية مبارية فحول الشعراء ومنافسة لهم في المسابقات والمساجلات، ورحت أتساءل، ما إن كانت تلكم الملاحظات قائمة؟ لكني وأنا أتصفّح الديوان أو المجموعة وجدتني أغرق فيه من أول وهلة ولم أستطع أن أرفع ناظري قراءة واستمتاعا، ثم عدت إليه مرة ثانية في جلسة متأنية فوجدتني أنقاد إلى قراءتين موازيتين متكاملتين.. الأولى : في شكل المجموعة أو فيما يسمى بمتعالياتها النصية الثانية: في مضمونها وقراءتها فنيا وجماليا. أما فيما يتعلق بالمتعاليات النصية: فأبدأها بالغلاف والذي طغى عليه اللون الأسود الداكن اللامع ثم قاسمه إلى شطرين غير متساويين خط أبيض كتب أعلاه عنوان المجموعة بالأبيض، ثم أضيف إليه اللون الأحمر الذي كتب به اسم الشاعرة وكلمة شعر تصنيفا للمجموعة، ولهذا دلالاته سنأتي على ذكرها. طبعا اللونين الغالبين هما الأسود الطاغي ثم اللون الأبيض بدرجة أقل، وهذين اللونين في لغة الفن التشكيلي لا يعدان من الألوان الأساسية بقدر ما يشكلان فضاء للتشكيل ويعبران عن خطاب رمزي إيحائي يعيد ملحمة الصراع والتعاقب بين الضدين المتلازمين الليل والنهار، الخير والشر، الحب والكره، الظلم والعدل، ثم أضيف إلى هذين اللونين لون أساسي هو الأحمر القاني، وهذا اللون مهما خفت مساحته أو نقصت فهو ملفت للانتباه مثير للجدل، فهو يعبر عن الثورة والغضب والانتفاض سواء كانت هذه ثورة حب أو ثورة حرب أو ثورة تنوير.. وبالتالي يضم الغلاف ثلاثة ألوان بارزة ملفتة للانتباه مختلفة في لونها ومتناسقة في قوتها ودلالاتها، ثم رصعت في الجزء الأسود الغالب امرأة دمية تشكل بيديها مثل حاد على شكل هرم مقلوب وهذا له دلالاته الخطابية في عالم الاتصال على أساس خطاب الهرم المقلوب، ويتوسط هذا المثلث وجه بارد لامرأة تنظر في اللاشيء خال من الإيحاء الشعوري، وهو وجه يرمز للاشيء أكثر مما يرمز لشيء آخر، وهو ما لا أراه موفقا لمضمون المجموعة الذي سنتعرف عليه لاحقا. أما ظهر الغلاف فبه صورة للشاعرة من تحتها مقطع شعري من اختيار الشاعرة فيه بوح أو خطاب موجه للأم تبث فيه آلامها وأحزانها المكنونة وهي تشق طريقها إلى الحياة، إلى عالم الشعر والكتابة. هذا ولم ننسى العنوان الذي يعتبر مفصلا مهما في الدراسة الدلالية وفي طرح المتعاليات النصية «يشكلني كما يهوى» ويمكن تناوله على زاويتين: • من ناحية المدلول اللغوي الصرف. • من ناحية المدلول الإيحائي الرمزي الإبداعي. أما من الناحية اللغوية فالجملة الفعلية المتكونة من العنوان يحضر فيها الفعل والمفعول ويغيب عنها الفاعل الذي يبقى مستترا، ليحيلنا إلى السؤال عن هوية هذا الفاعل وطبيعته، هل هو شخص ما؟ أم هو الزمن؟ أم هو شيء آخر نجهله؟ وفي هذا المضمار يكمن سر جمال هذه الجملة الفعلية بناء وتشكيلا. أما من ناحية المدلول الرمزي الإيحائي فالجملة لم تترك المجال واسعا للدلالة الإيحائية، ما عدا هوية الفاعل، وبالاستناد إلى نص العنوان نفسه والذي هو في الأصل مأخوذ من عنوان فرعي لقصيدة منبثة داخل المجموعة باحت بسرها ولم تترك للمتلقي فسحة كبيرة للقراءة الحرة المنفتحة، لكنه يبقى عنوانا ذا مدلولات جمالية، إذ فيه استسلام للمفعول تجاه الفاعل وهو استسلام مطلق وربما بتواطؤ أو بتورط من المفعول نفسه لأن الكلمة الدالة على ذلك تكمن في فعل يهوى، وهي وإن كانت فعل يعود للفاعل إلا أنها لا تحمل مدلول القوة والسيطرة بقدر ما توحي بالانسياق والرغبة، وكأن المفعول أراد أن يقول للفاعل خذني إليك وشكلني كما تهوى. ولو ننساق وراء هذا التحليل السيميائي للدال والمدلول لما كفانا هذا المجال، ونكتفي عند هذا المجال، ونكتفي عند هذا الحد مع المتعاليات لننتقل إلى فحوى المجموعة ومضمونها. القراءة الفنية لمضمون المجموعة تتضمّن المجموعة إحدى وأربعين قصيدة ونصا شعريا من أصل سبعة وسبعين صفحة، توزعت بين القصيدة العمودية والشعر الحر كما يسميه البعض، وهي نصوص تفرقت بين متوسط الطول وقصيره والتي تصل حد البيت الواحد، وهيفي أغلبها قصيرة النفس خفيفة الظل إلا من قصيدتين معتقتين رصينتين، الأولى في حمد الرسول الكريم بعنوان «فيض المحامد» والثانية قصيدة رؤيوية بعنوان «تأشيرة لبقايا حلم» سيأتي التفصيل حولها فيما بعد، والمجموعة على ما يبدو أنها جاءت متنوعة الأسلوب والبناء والشكل، وقد أظهرت فيها الشاعرة رصانة وحنكة في بعضها وخفة روح ودعابة طفلة - بفتح الطاء - على قول هيام يونس، وهي منزلة من الشعر لا ينالها إلا المحظوظون من الشعراء والشاعرات. وفي هذا السياق يجدر بنا القول أن الأسلوب في الإبداع الأدبي والفني بصفة عامة ينقسم إلى نوعين أسلوب إيحائي رمزي يرتكز على الصورة والخيال واعتماد لغة انزياحية وألفاظ دلالية رامزة تتكل على ثقافة المتلقي ومدى مشاركته الفاعلة في مقاربة النصوص المطروحة، وأسلوب ثان يرتكز على المضمون والبيان وهو يعتمد في ذلك على لغة رصينة معبرة جميلة تتخير الألفاظ الشعرية المناسبة لمضمونها، وتحرص على تبليغ المعنى الذي هو فيبطن الشاعر كما يقال. وأعتقد أن هذا الأخير هو الذي تميزت به نصوص المجموعة التي بين أيدينا وهو الأسلوب المعتمد عموما في ثقافتنا العربية وهو ما تدرجت عليه قريحة شعرائنا من أول رعيل ومازال، وهي تنتمي بذلك إلى مدرسة الأصالة والتي تحاول أن تحافظ على عذرية القصيدة العربية ونقاوتها الأصيلة المعتقة.. واستدلالا على ذلك نسوق هذه الأبيات من القصيدة الجميلة التي تمدح فيها الشاعرة سيد الخلق وخير الأنام رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام وتمجد فيها سيرته، إذ تقول في مطلع القصيدة: صلت عليك شموس الشوق وانبعثت تهدي سلاما لخير العرب والعجم وظللتك جنان الخلد في شغف ترجو لقاء بنور شاهق القممإلى قولها: خرجت نورا على القوم الذين أتوا بالكفر دينا بثوب الجهل والنقم واليتم يسكب في الأيام لوعته والفقر يسكن ما يبقى من الألم وفي قصيدة تأشيرة لبقايا حلم تقول: تبيض عيناك من حزن الذين مضوا هل أنت يوسفهم أم أنت يعقوب ويزهر الشوق والتحنان في زمن الجوع لهجته والقلب مصلوب تفيض جرحا وقد جرت ضمائرهم طوق الوداع ونبض الحب مصحوب سبعون عذرا وما ملت ملاجئهم صوت العواء وكل الحال منكوب وإذ نشهد في هذين المقطعين السابقين، كيف أن الشاعرة استوقفت الزمن الجميل كما يقال وراحت تقطف منه هاتين القصيدتين الرصينتين وتنسج على منواله نسقا معتقا يحاكي العهد المفقود بناء وشكلا ولغة وهذا تأكيد من الشاعرة على أصالتها واعتزازها بالقصيدة العربية المتينة ومدى قدرتها على مجاراتها ومحاكاتها، إلا أن الشاعرة أيضا لم تغبن زمانها ودون أن تتخلى عن أصالتها نظمت جملة من النصوص الشعرية الأخرى ذات طابع أخف وبروح أرهف ولغة سلسة رشيقة متحركة مداعبة ترقص بين الكلمات وتداعب المعاني الخفيفة والجميلة إلى درجة أن المتلقي، ولو لم تجمع في كتاب واجد لفرق بين التجربتين وأكد جازما على أن الشاعرة هي ذاتها في هاتين التجربتين ولنأخذ نص «يشكلني كما يهوى» والذي اختارته عنوانا لمجموعتها وكأنها تريد بذلك أن تقول لنا أني بنت اليوم وما الأمس إلا ذكرياتي وموعدي إذ تقول: يشكّلني كما يهوى يشكّلني على الدفتر فمرات سيرفّعني، ومرات سينصبني ومرات سيجزمني جوازا منه لا أكثر سأتبعه.. كما نعت بمنعوت إذا يحضر يشاركني مع الفعل كمفعول بلا مصدر على ورق يمررني ينازعني على الأسطر يشكلني كما يهوى يشكلني على الدفتر ففي هذا النص الشعري المداعب والمتلاعب بالألفاظ والكلمات، والذي استندت فيه الشاعرة على قواعد اللغة كمتكئ، فراحت تحركها من رفع إلى نصب إلى جزم وتؤولها من مفعول إلى مصدر، وهكذا جرت اللعبة في القصيدة والتي أعطتها لونا آخر وحسا جديدا أظهرت فيه الشاعرة مكنتها الأدبية والإبداعية على مجاراة عصرها ومحاكاة فحوله من الشعراء، وهي مداعبات شعرية جرى بها قلم نزار في الغزل وأحمد مطر في القدح اللاذع وغيرهما، فنلاحظ كم هي اللغة سلسة والمعاني متحركة ومخاتلة تنتقل بين حركة وأخرى لتصنع منا موارب جديد.. والشاعرة في هذا النص لا تستهدف المعنى والمضمون بقدر ما تستهدف إبراز المكنة على اللعب بالأدوات الشعرية دون الخروج عن قواعده المألوفة فكانت تفعيلتي «مفاعلتين مفاعيلن» من بحر تتحرك معها بسلاسة ورشاقة. رغم أن العرف جرى من باب شعر التفعيلة أن تكتب على البحور الصافية الستة كالمتقارب والمتدارك والرجز.. ومن خلال المجموعة أيضا نكتشف بأن هناك قصة حب وهيام وملحمة عشق كبيرة بين الشاعرة والشعر في حد ذاته، فهي تعشق الشعر وتحب قرضه لدرجة الهوس والجنون ويبدو أن هو الآخر يبادلها الحب نفسه والهيام عينه، وهذه الظاهرة في عشق الفن هي الدال الصحيح على أصالة الفنان وجودة علاقته بهذا الفن الذي يمارسه أو يبدعه، وربما يتجلى هذا بوضوع في فن الغناء بالخصوص وبشكل مباشر يمكن للمستمع أن يتلقاه مباشرة أين نجد هذا التلاحم والتفاعل بين المؤدي والأغنية وهو في الأصل ما يحقق النجاح لهذا العمل، وهذا التفاعل المستحيل والبهر نجده عند كبار المؤدين والمغنيين مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ووردة الجزائرية وغيرهم، وربما الكثير منا يعلم بتلك القصص التي تروى حول الأغنية وصاحبها، ومنها على سبيل المثال الأطلال التي أرعبت أم كلثوم وهي في قمة جدها، وكذلك عبد الحليم الذي كان ينقل مباشرة بعد الحفل إلى المستشفى، وفريد الأطرش الذي حذره الأطباء في آخر حياته من الغناء إلا أنه أصر على الاستمرار، وكان لا يتأخر عن موسم شم النسيم ليؤدي إحدى أصعب الأغاني «الربيع» وقد مات فريد في لبنان وهو يحضر لفلم غنائي جديد.. إذ أن هذا التلاحم الصادق بين الفنان وفنه هو الذي يصنع المجد ويعلي من صرح الفنان، وهذا ما نلمسه في الشاعرة صبيرة قسامة من خلال نصوصها وهي تعيشها وتبث إليها آلامها وأحزانها وتشاركها أفراحها وأحلامها.. وفي أغلب قصائدها إن لم أقل جلها ترتكز الشاعرة على ضمير المتكلم «أنا»، وهذا له دلالته السيميائية في تقوية الخطاب الأدبي ومدى تأثيره في المتلقي، ففي قصيدة «إليك عني» مثلا نجد هذا التلاحم وهذا الانتصار لحب الشعر ومعايشته فوق كل حب آخر إذ تقول: إليك عني فإن الشمس تنصرف وبعض شعري هنا أودى به التلف مذ كنت أرقب أوراقي محلقة أصاب أجنحتي كسر به كلف وربما من اللحظات أو المواقف التي يقف عندها اللسان عاجزا عن البوح، هي لحظات الموت والفراق خصوصا عند لحظاته الأولى، لكن شاعرتنا تلجأ إلى الشعر حضنا تذرف عليه دموعها وتجيش على كتفه بكاء، وهي تبثه مرارة حزنها وحرقة آلامها فتقول في بكائية «ذبحة الشعر» وهي ترثي أباها: عمر من الحب ممزوج بنسريني وصفحة كتبت من دمعة العين إلام تذرفني الاهات آه أبي هل يشرق الحلم في نومي فتأتيني يا ذبحة الشعر في أصداء قافيتي هزي حجابك عن حزني وضميني وإن الحديث يطول ولا يمل في فحوى هذه المجموعة ومعايشة نصوصها، فيها الكثير من الصدق الوجداني، وهذا راجع لما سبق ذكره وهو أن الشاعرة تقاسم الشعر لا مشاعرها فحسب بل روحها وكيانها، فصبيرة قسامة هي شعرها، وشعرها هو صبيرة قسامة، هما روح واحدة في جسد وكتاب.