عادت قضية أبيي لتطفو على السطح ومع عودتها بدأ السودانيون يحبسون أنفاسهم خشية أن تنفجّر القنبلة الموقوتة التي بقيت دون تفكيك بعد إقرار اتفاقية السلام وإجراء استفتاء تقرير مصير السودان في جانفي الماضي. ففي الوقت الذي بدأ فيه أهل الجنوب يعدّون العدة لإقامة الأفراح والليابي الملاح بمناسبة الإعلان الرسمي عن قيام دولتهم التي انتظروها لأكثر من نصف قرن، عادت عملية السلام لتنتكس والتوتر ليخيم على الأجواء بعد أن قررت حكومة الخرطوم قبل أسبوع إرسال قواتها إلى مدينة أبيي بحجة الحفاظ على الأمن والإستقرار وحماية السكان من تصاعد الاعتداءات ضدهم، وآخرها تعرض قافلة للأمم المتحدة وجنود شماليين لهجوم خلّف عددا كبيرا من الضحايا. التحرك العسكري الشمالي أثار استنكار الجنوبيين والمجموعة الدولية، التي أدانت السيطرة على أبيي قبل الاعتراف الدولي باستقلال الجنوب، ودعت الخرطوم إلى سحب قواتها، وحذرت من أن تواجدها بالمنطقة سيعيق الجهود التي تقودها لتطبيع العلاقات من نظام عمر البشير.. وكعادتها سارعت أمريكا من خلال موفدها إلى الخرطوم “برنستون لايمن” إلى رفع عصاها في وجه النظام السوداني إذ اعتبر الموفد ما سماه احتلال القوات السودانية الشمالية لأبيي بأنه ردّ مبالغ فيه جدا على تعرض قافلة أممية وجنود شماليين لهجوم، وقال بأنها خروقات خطيرة لاتفاق السلام، وبالموازاة مع استعمال العصا، عرضت أمريكا الجزرة على البشير و«بشَرتْه” بأنها بدأت تدرس الوسيلة الكفيلة بسحب السودان من اللائحة الأمريكية للإرهاب وتعمل منع البنك الدولي وآخرين حول الديون السودانية المقدرة بحوالي 38 ملياردولار، وبأنها ستعيّن بعد التاسع جويلية القادم وهو التاريخ الذي سيعلن فيه رسميا إستقلال الجنوب سفيرا في الخرطوم عوضا عن القائم بالأعمال الذي يتولى السفارة الأمريكية هنالك حاليا. وبالإضافة إلى التنديد الغربي، طالب الجنوبيون القوات الشمالية بإنهاء “إحتلالها” غير القانوني كما قالوا لأبيي وزعموا بأن النظام في الخرطوم يقوم بتحريك أعداد كبيرة من قبائل المسيرية العربية نحو المنطقة المتنازع عليها، قصد احتلالها لتبرير مشاركتهم في الإستفتاء، ومن ثم ضمان إلحاقها رسميا بالشمال. لكن الشمال أنكر تماما أن تكون له رغبة في السيطرة على أبيي لفرض أمر واقع، وقال بأن تحرك قواته جاء في إطار توفير الحماية للمدنيين ولوضع حد للتجاوزات التي يرتكبها الجنوب بدعم من جهات دولية تظهر بشكل واضح دعمها لضم هذه المنطقة المكدسة بالثروة النفطية للجنوبيين. ولم يخف النظام في الشمال تمسكه بأبيي التي تشكل همزة وصل بين شمال السودان وجنوبه، والتي يدعي كل طرف أحقيته فيها مما يحولها إلى قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار في أي لحظة.. النفط والقبيلة أبيي ولأنها تعتبر محل نزاع بين شمال وجنوب السودان، حصلت على وضع خاص ضمن إتفاقية السلام الشامل بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، إذ كان مقررا أن يصوت السودانيون على تقرير مصيرها في جانفي الماضي، تزامنا مع الاستفتاء على انفصال الجنوب، غير أن عملية التصويت أجهضت بسبب خلافات حول من يحق لهم التصويت، وهي خلافات تخفي نزاعات قبلية تاريخية بين سكان المنطقة الزنوج والعرب، وتخفي صراعا حثيثا بين الشمال والجنوب على ضم أبيي التي تنام على كميات هائلة من الذهب الأسود. ومعلوم أن هذه المدنية هدمت كلية في ماي 2008 إثر معارك ضارية جرت بين الجيش الشمالي والمقاتلين الجنوبيين وشكلت أكبر خطر لإتفاق السلام الموقع عام 2005، وعلى إثر هذه المواجهات رفع شمال وجنوب السودان خلافهما إلى محكمة التحكيم الدائمة في “لاهاي” للبث فيه، ومن المرتقب أن تحدّده هذه المحكمة بحلول 23 جويلية القادم ما إذا كانت اللجنة السودانية التي قامت بترسيم الحدود في منطقة أبيي قد تجاوزت تفويضها، وإن تبيّن أن اللجنة التزمت بتفويضها فسوف يتم تثبيت الحدود التي رسمتها، لكن إذا كانت تجاوزت هذا التفويض فستتولى محكمة “لاهاي” ترسيم الحدود. ويخشى المراقبون أن ترد الجهة الخاسرة بشكل سلبي على قرار المحكمة رغم أن كلا الطرفين الشمالي والجنوبي تعهدا باحترام قرار محكمة لاهاي والإمتثال له ويتخوفون من أن يكون التصعيد الأخير مقدمة لإنتكاسة أمنية وعودة لإشتعال الحرب التي دامت عقدين كاملين، وفي انتظار ما ستقضي به “لاهاي” يبقى التوتر سيد الموقف في أبيي والوضع مفتوح على أسوأ الإحتمالات. خاصة مع تشبت كل طرف بأحقيته في هذه المنطقة وتمسكه بالدفاع عن هذا الحق. كما تبقى عدة قضايا إذا لم يتم حلها بالتراضي تشكل قنابل موقوتة ستنفجر في أي وقت، منها كيفية تقسيم النفط بدقة وكيف سيستغله الجنوب إذا حصل عليه والأنابيب التي تنقله تمر من الشمال، وأين يتم ترسيم الحدود وكيفية المشاركة من ديون السودان التي تقارب 40 مليار دولار؟.