الأكيد أن الجميع يلاحظ الدور الكبير والغامض الذي تلعبه فرنسا في الأزمة الليبية، ويتبين له بوضوح تام بأن فرنسا سبقت الجميع وتلقّفت بذور هذه الأزمة، وعملت على نفخها وتصعيدها إلى أن حوّلتها إلى معضلة قد يصعب حلها دون أن يخلّف آثارا تدميرية على ليبيا والشعب الليبي، وربما المنطقة. إن الموقف الفرنسي كما يقدّمه مشهد الأزمة الليبية مستنسخ إلى حد بعيد عن الموقف الأمريكي من الأزمة العراقية، والدور الذي يلعبه الرئيس ساركوزي مشابه إلى حدّ بعيد مع الدور الذي لعبه جورج بوش الابن من 2001 إلى 2008، والذي قلّب العالم رأسا على عقب وأشعله حروبا استباقية ضد العرب والمسلمين، وزعزع استقراره بواسطة فوضاه الخلاّقة، التي سمحت للصوص الثروة بنهب الثروات العراقية والأفغانية. ويفسّر البعض هذا الاستنساخ بقولهم أن فرنسا التي اتخذت موقف المعارض للحرب على العراق، ووقفت موقف المتفرّج عندما كانت أمريكا وحليفتها بريطانيا تستأثران بالكعكة العراقية المسيلة للعاب، اختارت اليوم أن تنزع عنها رداء الحياد، وربما ما تعتبره غباء، وأن تسبق الجميع لتحكم بين ثنايا قبضتها خيوط الأزمة الليبية، ومن خلال ذلك تضع يدها على النفط الليبي وتسيطر على واحد من أهم المواقع الاستراتيجية في المتوسط. هكذا إذن شكّلت الأزمة الليبية المنعطف الرئيسي للتغيير الديبلوماسي الفرنسي، وقبل هذه الأزمة شاهدنا ذلك التخبّط الذي عرفته سياسة فرنسا الخارجية بمناسبة أزمة تونس، والانطباع الذي أعطته باريس بوقوفها إلى جانب نظام بن علي وإدارة ظهرها للمنتفضين، وأيضا ذلك الغموض والتذبذب الذي ميّز موقفها من الثورة المصرية. ويبدو جليا أن فرنسا “الساركوزية”، فكّرت مليّا وأدركت بأنها عِوض أن تقف موقف المحايد اللاّمبالي أو أنها تدعم أنظمة انتهت مدة صلاحيتها، عليها بدل ذلك أن تستغل هذه الفرصة التي لا يمكنها أن تتكرّر لتتبنّى الانتفاضات الشعبية العربية، وتتولى بنفسها إسقاط الزعامات المستهدفة لتقيم بعد ذلك النظام المفصّل على مقاس مصالحها. قَطْع حبل الوِدّ لكن إذا كنّا نسجّل ذلك الحضور الفرنسي الكبير في الأزمات العربية، فإن ما نلاحظه أن الأزمة في ليبيا تستحوذ على حصة الأسد من الاهتمام الفرنسي، الذي تحول إلى نوع من التكالب المثير للشكوك والاشمئزاز، الأمر الذي يطرح عدة علامات استفهام عن سرّ التحول الفرنسي من ليبيا رغم أن العلاقات بين البلدين لم تكن تشوبها شائبة، وإلى وقت غير بعيد فرّشت باريس السجاد الأحمر للعقيد القذافي واستقبلته بالأحضان وبامتيازات لم تقدّمها لأحد. في الواقع لقد ظلّت العلاقات الفرنسية الليبية جيدة، ففرنسا لم تكن دولة مستعمرة ولم تكن لها قواعد مثل بريطانيا وأمريكا بليبيا، والتي أجليت عام 1970 بعد مجيء الزعيم إلى السلطة. ولما كان بعض السحاب يعكّر صفو علاقاتهما مثل مرحلة الصراع التشادي وقضية الطائرة الفرنسية التي اتهمت ليبيا بإسقاطها فوق سماء مالي، والمعروفة بقضية “اليو تي أي)، كانت إرادة القيادتين تبعده، بل لقد عرفت العلاقات الثنائية في السنوات العشرة الأخيرة مرحلة ود كبيرة، انبتقت عنها زيارات واتفاقيات، واستطاعت فرنسا بفعل مكانتها لدى الزعيم أن تتدخّل وتحلّ قضية الممرّضات البلغاريات، أو ما يعرف بقضية أطفال الأيدز في بنغازي. ووصل الود بين باريس والجماهرية إلى درجة “زواج المتعة”، الذي كان “مَهْره” حسب تصريحات رسمية ليبية ملايين الدولارات التي قدّمها القذافي لدعم حملة ساركوزي الرئاسية. ولن يفوتنا ونحن نسترجع متانة العلاقات الفرنسية الليبية، التذكير بالاستقبال الحار الذي لقيه القذافي أثناء زيارته لفرنسا عام 2007، وبالموقف الفرنسي التاريخي عندما رفضت باريس عبور الطائرات الأمريكية لأجوائها في محاولة اغتيال القذافي عام 1986، فما الذي نسف هذه العلاقة وأحدث الطلاق البائن بين البلدين؟ وما الذي يجعل باريس تُظهر كل هذا الحقد الممزوج بروح الانتقام من القذافي؟ هزّ عشّ الدبّور الأكيد أن هنالك دوافع كثيرة وراء هذا التغيير الواضح، وهذه النقمة الفرنسية الكبيرة على النظام الليبي. والمؤكد أن المستتر منها أكثر من الظاهر، لكن يمكن استخلاص بعض الأسباب الدافعة إلى هذا التحول، فبالإضافة كما سبق وقلنا إلى رغبة فرنسا في تعويض خسارتها للكعكة العراقية التي استأثرت بها أمريكا وبدرجة أقل بريطانيا، وإصرارها هذه المرة على كسر طوق الحياد واستباق الجميع إلى النفط الليبي، هنالك عامل يراه جل المراقبين والمحلّلين دافعا قويا لانتقام بلاد الجن والملائكة من العقيد، الذي ينعته البعض بالمهووس والمصاب بجنون العظمة، ويكمن هذا العامل في تجرّؤ القذافي على دخول ملعب فرنسا في إفريقيا، واللعب فيه بحرية وجرأة وتحدّي، وذلك من خلال هندسته لمجموعة دول غرب إفريقيا وأيضا للاتحاد الإفريقي...واختراقه للخطوط الحمراء التي سَيّجت بها فرنسا مناطق نفوذها. لقد بدأ القائد الليبي ينشط لإقامة بنك إفريقي، وأخذ يحضّر لإصدار عملة الدينار الإفريقي، وهو ما يعني حرمان الاقتصاد الفرنسي من الدورة الاقتصادية لمجموعة غرب إفريقيا (الفرنك الافريقي) المموّل والمضمون من البنك الفرنسي، كما كان الزعيم الليبي وراء إفشال مشروع فرنسا والاتحاد من أجل المتوسط. الاقتراب من الجزائر ولا يتردّد بعض المحلّلين في الذهاب بعيدا، ويربطون التكالب الفرنسي المحموم على النظام الليبي ودموع التماسيح التي تسكب على مصير المدنيين الليبيين، برغبة فرنسا الجامحة في الاقتراب من الجزائر أو حلمها الضائع التي لا تزال ورغم مرور نصف قرن على رحيلها منه تحنّ للعودة إليه. وبعيدا عن الدوافع والأسباب الكامنة وراء الموقف الفرنسي من الأزمة الليبية، دعنا نقف عند التحرّكات والقرارات التي هندستها باريس لغرض التدخل العسكري قصد الإطاحة بالقذافي. لقد استدركت فرنسا خطأها في تعاملها مع الثورتين التونسية والمصرية، واستغلت الإنجراف الشعبي العربي وراء الحدثين وتأثيرهما على الرأي العام، فتقمّصت دور المنقذ للشعب الليبي، وبدأت تتحرك يمينا وشمالا لتدويل الأزمة الليبية، واستصدار قرارات تسمح لها بالتدخل العسكري تحت المظلّة الدولية للتخلّص من القذافي. فبعد أقل من أسبوعين على اندلاع الاحتجاجات الليبية في 15 فيفري الماضي، سارعت باريس تعبّئ الجميع وتدعو إلى جلسة عاجلة لمجلس الأمن، أسفرت عن تبنّي القرار رقم 1970 القاضي بفرض عقوبات دولية اقتصادية ومالية على العقيد وعائلته، والدّاعي إلى إحالة الوضع في ليبيا إلى الجنايات الدولية، كما دعت فرنسا الاتحاد الأوروبي إلى عقد قمة خصّصت للتطورات في ليبيا، وفيها دعا ساركوزي إلى القيام بضربات عسكرية لوقف تقدّم قوات القذافي باتجاه مدينة بنغازي. واستبق الرئيس الفرنسي القمة بالاعتراف بالمجلس الوطني المؤقت، وكان أول رئيس يعترف به ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الليبي، واضعا بذلك نظرائه الأوروبيين أمام الأمر الواقع. كما تحالف مع لندن في مجلس الأمن، وقدّم مشروع قرار جديد حمل رقم 1973، يتيح اإقامة منطقة حظر جوي فوق ليبيا، ويمنح الدول الأعضاء حق اتخاذ كل التدابير الضرورية لحماية المدنيين، ما يعني إعطاء الضوء الأخضر لاعتماد الخيار العسكري ضد النظام الليبي. وبسرعة استثنائية، جمع ساركوزي قمة موسعة أوروبية أمريكية عربية في قصر الإليزي لإقامة تحالف دولي موسّع لتنفيذ القرار الأممي الجديد. وقامت فرنسا بأول الضربات العسكرية، إذ أرسلت طائرات “الميراج” لضرب ارتال دبابات القذافي على مدخل بنغازي، وأمر ساركوزي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلّحة الفرنسية، بتجميع قوة بحرية جوية كبيرة مقابل الشواطئ الليبية محورها حاملة الطائرات “شارل ديغول”، كما بذلت فرنسا مساعي حثيثة لتسليح المعارضة. في الواقع تحرّكات فرنسا التحريضية ضد النظام الليبي، لا يمكن تلخيصها في هذا المقال، كما لا يمكن الإحاطة بكل دوافعها، لكن المؤكد أنها ستتواصل إلى أن تحقّق باريس هدفها المنشود، وهو إسقاط نظام القذافي وكسر شوكته المغروسة من مناطق نفوذها بإفريقيا. ورغم أن باريس تقول بأنها ملتزمة فقط بتنفيذ القرار 1973، إلا أن وزير خارجيتها أفصح علنا بأن هدف الحملة الحقيقي هو رأس القذافي، عندما قال بأن القوات الحليفة تعمل لتمكين المعارضة الليبية من الانتصار على القذافي. ويبقى في الأخير، الإشارة إلى أن الدور الفرنسي كما أراه بعيدا كل البعد عن المصرّح به، والخفيّ هو إصرار فرنسا على مدّ نفوذها إلى منطقة تشمّ منها رائحة الذهب الأسود، ورائحة الجزائر حلمها التي خسرته في معركة منيت فيها بهزيمة مهينة ومميتة.