اقترح الرئيس أوباما على الحكومة ضريبة جديدة سميت بضريبة "بافيت" نسبة الى رجل الأعمال الأمريكي "وورين بافيت" ضمن خطة قومية لإسعاف الاقتصاد من نوبة عجز الموازنة ومن ثمة الديون السيادية التي أتت على 96 بالمائة من الناتج الداخلي الخام لأكبر قوة اقتصادية وتجارية في العالم على الاطلاق. وتقضي الضريبة الجديدة التي يأتي اقتراحها بعد شهر واحد من إقرار خطة أوباما للتقشف في الميزانية بفرض ضريبة جديدة على الأغنياء ورجال الأعمال ممن يتجاوز دخلهم السنوي مليون دولار، وتستهدف تحصيل 467 مليار دولار إضافية ستسمح بإطلاق مناصب شغل جديدة وتجنب الأسوأ أي الاقتطاع من النفقات الاجتماعية. ولكن مقاومة أخرى يتوقع لها أن تحد من طموحات الرئيس الأمريكي في تمرير الاقتراح على مجلس النواب الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري ولو أن التجربة السابقة أثبتت أن المصلحة الأمريكية تتجاوز بأشواط مصلحة الحزبين الكبيرين في واشنطن أي الحزب الجمهوري ونظيره الديمقراطي. فإلى أي حد يمكن للسياسة المالية الجديدة للحكومة الفيدرالية في أمريكا أن تتغلب على صعوبات الموازنة؟ وماذا يعني أن يلجأ واضعو السياسات في البيت الأبيض الى فرض ضرائب استثنائية على أغنياء الناخبين؟ وداعًا للسياسات النقدية المبنية على الربا إذا ما أذن الله لضريبة "بافيت" أن تتحقق، فإن مشروعا آخر من المشاريع الأمريكية المتصلة بأسماء الأشخاص يتحقق بعد مشروع "مارشال" العام 1947 والذي اقترحه عسكري أمريكي عمل في الحرب العالمية الثانية هو الجنرال "جورج مارشال". ويرمز "وورين بافيت" الى البرجوازية الأمريكية الوطنية وهو أقرب الى أفكار المدرسة الديمقراطية التي تميل الى السياسات المالية القائمة على الجباية في حين تراهن السياسات الاقتصادية للجناح الجمهوري على اسهامات المدرسة النقدوية أي على سعر الفائدة الربوية كمتغير فاعل في تفسير الطلب على النقود. وإذا ما عدنا الى اتجاهات الأسواق في البلدان الصناعية وخاصة أسواق النقود والمال، اتضح جليا أن اتجاها بدأ ينمو داخل هذه الأسواق نحو مؤشرات الاقتصاد الحقيقي أي السيولة الناتجة عن الثروة والناتج أو ما يسميه الفقه الاسلامي "الثروة العائمة " و"عروض التجارة" بدلا عن "الائتمان" و"اشتقاق القروض" و"بيع الديون". ويعني ذلك بالدرجة الأولى مفردات السياسة الجبائية التي يبدو أنها تتفوق عن السياسة النقدية من حيث النجاعة في تأمين توازن الأسواق. وشرعت النظم المالية في الغرب أياما قليلة بعد الأزمة المالية - 2008 في ضبط نفسها من خلال: دراسة أسلوب التمويل التشاركي المعروف اصطلاحا بالتمويل الاسلامي وقد سبق لجامعة "ستراسبورج" الفرنسية فتح تخصص أكاديمي في هذا المجال، تدشين التعامل - على أوسع نطاق- بالقروض اللاربوية وقد نزلت أسعار الفائدة في اليابان الى الصفر بالمائة وتتراوح في الدول الصناعية الأخرى بين الصفر والنصف بالمائة، تعديل قوانين البورصة للترخيص بتداول "الصكوك الاسلامية" التي تصدرها المصارف اللاربوية في الخليج والشرق الأوسط. يقول الإمام الشاطبي ... وفضلا عن الشروع في ضبط النظم المالية في الدول الصناعية على هندسة التمويل الشرعي في الاسلام، ها هي ضريبة "بافيت" تعيد التفكير الاقتصادي الى أواخر القرن السادس الهجري أي الى أواخر القرن الحادي عشر للميلاد وبالضبط الى اسهامات أحد علماء الاسلام واسمه "أبو اسحاق الشاطبي" . يقول الشاطبي في مؤلفه "الاعتصام": "إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقدًا على تكثير الجنود لسد حاجة الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاَ أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك، وإنما لم ينقل عن الأولين مثل هذا الإتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام، بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار". ويعني كلام الشاطبي ما عناه اقتراح "وورين بافيت" بالضبط وما اقتنع به الرئيس الأمريكي أيضا أي أن معالجة وضعية اللاتوازن في موازنة الدولة تقتضي فرض ضريبة استثنائية على أغنياء الناس تؤخذ من الثروة الحقيقية لهم ولا ينبغي الاستنجاد بخلق النقود بناء على السياسة النقدية للبنك المركزي. ويدير الضريبة - أي السياسة المالية للدولة - "الإمام العادل" أي الحكومة التي تساوي بين المواطنين في الجباية وليس البنك المركزي الذي يتبع سياسة التدخل عن طريق السوق المفتوحة، وهو جوهر ما عناه "بافيت" عندما قال بأن الطبقة المتوسطة وطبقة الموظفين في أمريكا تدفع ضرائب أعلى بكثير مما يدفعه رجال الأعمال. الدعوة مفتوحة للجزائر وللدول الإسلامية وتكاد ملاحظة "بافيت" تنطبق على الجزائر وعلى جل الدول الاسلامية حيث يدفع الموظفون - عن طريق الاقتطاع الاجباري من إجمالي الدخل- حصيلة للضريبة أعلى بكثير مما يدفعه الأثرياء عن طريق التصريح بالثروة، فضلا عن الحصيلة الناجمة عن التهرب الضريبي الذي مازال يكبد مالية الجزائر خسارة سنوية قدرتها مصالح وزارة المالية ب 64 مليار دينار - 800 مليون دولار- وأن الخسارة منذ 1990 تجازوت سقف 10 مليار دولار. وضع يدعو للإصلاح قبل أن تفرضه أوضاع الأزمة والدخول الى السنوات العجاف، كما حدث في أكبر اقتصاديات العالم أمريكا وفي أقلها حجما أيضا أي بريطانيا واليونان. يفهم من كلام "الشاطبي" في "الاعتصام" أن جميع الدول معرضة في موازناتها الى شح السيولة، وأن الإسلام يعتبر شح السيولة ظاهرة استثنائية وليست حالة مستديمة طالما أن هناك حكومة عادلة تجبي الزكاة. والزكاة جباية حقيقية لأنها تؤخذ من الثروة بنسب متفاوتة حددها الوحي الكريم - ولكنها تتطلب تنظيما فنيا واداريا مواتيا لوظيفتها في تأمين توازن أسواق الشغل والسلع والنقود - وعندما لا تكفي الزكاة بنسبها المفروضة يجوز للحكومة استثناء فرض ضريبة مكملة يجري العمل بها لغاية تجاوز شح السيولة ولكنها ضريبة تمس أغنياء المواطنين وحدهم وبحجم الحاجة إليها لتلبية حاجات السكان من الرعاية الصحية والشغل، وهو ما تفطن إليه "أوباما" أخيرا ولكن بعد أن أفتى الشاطبي في "الاعتصام" والإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" منذ 10 قرون بالضبط.