على النّخبة المساهمة في طرح البدائل وإعادة بناء النسيج الاجتماعي والثقافي والانتصار لقيم المواطنة تحدّثنا الدكتورة ليندة بورايو، في هذا الحوار، عن العلاقة التفاعلية العضوية بين السياسة والثقافة، وكيف تؤثر كلّ منهما على الأخرى. وتتطرّق أستاذة العلوم السياسية إلى الدور المنوط بالمثقف الجزائري، خصوصا في الوضع الحسّاس الذي تمرّ به البلاد، مؤكّدة على ضرورة أن يتجاوز المثقف الاعتبارات الإيديولوجية والحزبية الضيقة، ويسخّر فكره في خدمة المصلحة الوطنية. - الشعب: عموما، ما هي الرّوابط التي تجمع بين السياسة والثقافة؟ وفيمَ تتمثل أهمية الثقافي بالنسبة للسياسي؟ د ليندة بورايو: لقد أصبح للمسألة الثقافية في جلّ أقطار العالم اليوم، دور بارز في التحركات الاجتماعية والسياسية، وكأن الأدوار بين السياسي والثقافي قد انقلبت.. لقد كان التصور السائد من قبل، أن العلاقة بينهما هي علاقة تراتبية على الشكل الذي يجعل السياسي ذا أولوية على الشأن الثقافي، أما اليوم فلا أحد يستطيع أن ينكر أن المسألة الثقافية أصبحت تتصدر المشهد على مستوى العالم، وصار المعطى الثقافي يفرض نفسه ولم يعد في الظل، ولم يعد تابعاً. العلاقة بين الثقافة والسياسة علاقة عضوية، فميدان السياسة الواقعي في حاجة إلى ميدان الثقافة النظري..والسلطة في علم الاجتماع السياسي، قوة في خدمة فكرة، يولدها الوعي الاجتماعي. كما أن الأحداث الاجتماعية نتاج لتفاعل الطبيعة البشرية مع الأحوال الثقافية، أضف إلى ذلك أن الأنظمة السياسية على اختلاف مشاربها، تأسَّست على قيم ثقافية، مثل الحرية للأنظمة الليبرالية، والعدالة الاجتماعية للأنظمة الاشتراكية، ولا تتوقف الثقافة عند حد التأسيس الفلسفي للأنظمة السياسية بل تسعى إلى إيجاد أنماط ثقافية للتمثيل الاجتماعي لهذه الأنظمة. وفي المقابل يُعتبر الحَراك السياسي مُحركاً مهمّا للحياة الثقافية عبر التاريخ، بما ينتجه من إشكاليات تتعلق بالسلطة والحقوق العامة والحرّيات، فالأزمات السياسية والتحولات الكبرى للمجتمعات تتطلب معالجات ثقافية، إمّا لتدشين واقع جديد أو تبرير واقع قائم. فالثقافة بحاجة للسياسة للاتصال بالواقع والتفاعل معه، والسياسة بحاجة للاتصال بالمعرفة والارتباط بها، وإذا كانت الثقافة مقولة معرفية، فإن السياسة تقوم على أساس القوة، والمعرفة بحاجة إلى القوة لحمايتها وتطبيقها، والقوة بحاجة إلى المعرفة لتهذيبها وضبطها وتوجيهها، ولتحويلها إلى طاقة تساعد في حماية النظام العام، وتطبيق القانون، واحترام الحقوق. لا يمكن للثقافة أن تكون بديلا عن السياسة، كما أن السياسة ستظل بحاجة إلى الثقافة، وحتى يحفظ كل منهما مساحته من تدخّل الآخر لابدّ من أن تتحول الثقافة إلى نقد مستمر للسياسة، وأن تتحول السياسة من جهتها إلى نقد مستمر للثقافة. - بإسقاط ما سبق على الحالة الجزائرية..كيف تؤثّر الأوضاع السياسية الحالية على المشهد الثّقافي الوطني؟ وهل كان المثقّف فاعلا مؤثّرا في هذه المرحلة الحسّاسة؟ إنّ مرور الجزائر بالأزمة السياسية الراهنة، وضبابية المشهد السياسي، وانعكاساته على الجبهة الاجتماعية، دون أن تتّضح مآلات المرحلة القادمة وموعد انتهاء الأزمة، يُنذر بأزمات لاحقة على كافة الأصعدة، في ظلّ تعنت الآراء وغياب الحلول المستعجلة التي توصل البلاد إلى برّ الأمان. والصعيد الثقافي واحد من الأصعدة التي يهدّد عدم الاستقرار السياسي بعرقلتها، فبدون استقرار لن يكون هناك مجال لا لدعم الثقافة، ولا للتنمية بمفهومها الشامل، وأكيد أن هذه الأوضاع وتغيّر سلّم الأولويات في حالة الأزمات سيجعل المواطن الجزائري مشدودا إلى الشأن السياسي أكثر منه من الشأن الثقافي. - إلى أيّ مدى يمكن القول إنّ المثقّف كان فاعلا مهمّا في هذه المرحلة؟ لا ينكر أحد أن المثقف الجزائري منذ الاستقلال مغيّب بإرادته أو من دونها، وذلك بسبب ممارسات سلطوية أبدعت في تهميشه وتحييده من منطلق الخوف منه، فاحتكرت الثقافة لتسمح ببروز مثقفين عضويين تقليديين، ساهموا في تثبيت واستقرار السلطة لصالح فئة على فئة. وقياسا على ما سبق، لم يكن المثقف الجزائري هو المحرّك والفاعل لما يحدث في الجزائر، وإنّ ما يحدث الآن هو فرصة تاريخية له كي يعيش مقولة: «أنا أفكّر وأنا أفعل»، فهناك العديد من الرهانات التي تحتاج وتنتظر الفهم والتحليل والاقتراح، في محيط اختلط فيه الحابل بالنابل وكثر فيه التخوين، إذ ما يلاحظ في المشهد الثقافي هو بروز الفرديات الثقافية المتحدثة باسم «الأنا». آن الأوان إلى ميلاد وتشكّل نسيج يتحدّث باسم «النحن»، ويكون كفيلا بأن يُجعل منه قوة للاقتراح وإيجاد الحلول للخلاص الجماعي، فالمطلوب الآن ليس فقط مجرد النزول إلى الشارع، والسير مع الجموع، لكن طرح البدائل، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي والثقافي، والانتصار لقيم المواطنة. - تحدّثنا عمّا هو كائن، فلننتقل إلى ما يجب أن يكون..ما الذي يجب على المثقف الجزائري فعله لكي يؤدّي دوره المنوط به؟ إيمانا منّا بدور الفكر في صناعة التاريخ، لا يمكن للمثقف أن ينصرف عن الشأن السياسي ويكون سلبيا، فمع كل ما يحدث تظل الهواجس السياسية حاضرة في مختلف أعمال المثقفين بطريقة معلنة أو مُضمرة. فالمثقف ينخرط في الجبهة السياسية من خلال التفكير بالأسئلة المهمّة المطروحة على الساحة الوطنية، ومن خلال مجادلته في أسئلة التحول السياسي في مجتمعه وفي العالم، ودعوته إلى التعامل النقدي مع كل ما يجري في الفضاء الوطني والعربي والعالمي، بهدف خلخلة ما هو كائن، أو الانتصار لمكاسب عصرنا بروح نقدية يقظة. وإذا كانت وظيفة الثقافة هي التوحيد المعنوي والروحي والعقلي لأبناء الوطن الواحد، والارتفاع بالوطن من مجرّد رقعة جغرافية إلى وعاء للمجتمع توحده وتدفعه إلى الأمام، فإن الدور المنوط بالمثقف هو «إعادة تأسيس الوعي بالوحدة لصالح الوطن.» إن كل ما يحدث في الجزائر، خصوصا سياسيا، مناسبة للمثقف الجزائري للتفكير وإعادة النظر في القضايا المطروحة من أجل تعقّل ما يجري من حوله، ومحاولة بناء مواقف مُنحازة لصالح الخيارات السياسية التي تخدم البلاد والعباد. فالمثقف يفكر فيما يجري من حوله ثم يحاول بناء الرأي من دون إغفال سياقات الأحداث. إن كلّ محاولة للتعقل في التفاعلات الجارية في المجال السياسي هي انتصار للديمقراطية، إذ تقع على عاتق المثقف مهمّة الحضور السياسي، خصوصا عندما يتعرّض المجتمع لهزات قوية وأزمات سياسية، لإزالة الضبابية ولمّ الشمل على طاولة الخيارات المصلحية للبلاد والعباد. وقد تتعدّد صور الحضور والتزام المثقف بالهمّ السياسي، إلا أن ما يميّز هذا الحضور هو القدرة على الإقناع بأدوات ومفاهيم العقلانية التوافقية، التي تزن الأمور بميزان الرشادة والتعقل ولمّ الشمل، وتساهم في تعبئة المجموعة الاجتماعية الصاعدة، وبلورة مطامحها وأهدافها، وتنوير الرأي العام كلّ من موقعه وعبر مختلف وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي. فالمثقف ليس مجرّد رجل أكاديمي عاكف على تخصّصه، فقد تجتمع فيه شخصية مركّبة من مفكر ناقد ومثقف موسوعي، وناشط سياسي محلّل لمختلف الظواهر السياسية والاجتماعية، ومناضل سياسي، وصحفي متمرّس باحث عن الحقيقة، يكتب للخاصّة وبالقدر نفسه يخاطب العامة. ولقد عرف الفضاء الجزائري خلال العقود الماضية، أنواعا عديدة من المثقفين، منها المثقف السلطوي الذي يدور مع السلطة حيث دارت، ولا يستطيع أن يغرد خارج سربها، والمثقف الإيديولوجي الذي يتعصّب لانحيازاته الإيديولوجية، والمثقف الحزبي الذي يسخّر قدراته الفكرية لخدمة انتمائه الحزبي..والجزائر اليوم بحاجة ماسة إلى «المثقف الوطني» صاحب الخطاب العابر لضيق الإنحيازات الإيديولوجية والحزبية إلى سعة المصالح الوطنية ليقدم بذلك نموذجا حياً للمثقف الحقيقي الذي عرّفه الفرنسي «جوليان بيندا» صاحب كتاب «خيانة المثقفين»، بأنه الذي لا يسعى بثقافته وراء أي غرض مادي، المثقف الذي يقدّم المبادئ على المصالح، ويحترم عقله وفكره، ويقوم بواجبه تجاه الوطن، فلا يتحرك إلا وفق قناعاته الفكرية وقيمه الأخلاقية، ولا يكون انحيازه إلا لقضايا أمته، فهو يسخر قدراته المعرفية والفكرية لخدمة أولويات وطنه السياسية والاجتماعية، ليجعل من قلمه صوتا للحق في وجه أصحاب المصالح والفساد والاستبداد، ويدافع عن حق الجماهير في حرية الاختيار من دون قيود. - وكيف للنّخبة أن يساهم بدوره؟ فالفترة الحسّاسة التي تمر بها جزائرنا تستوجب على المثقف أن يلبس ويلتزم بعباءة المثقف العضوي، الذي يلتحم بالجماهير ويعبّر عن تطلعاتها من دون إفراط ولا تفريط، والمثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل لا يستحق لقب مثقف. وفي الأخير لا ننسى أن نذّكر بأن المعادلة تبقى جدّ صعبة على المثقف في محاولته لإيجاد علاقة نموذجية بينه وبين مجتمعه، لأن الصورة الشائعة هي أن المثقف إذا كان قريبا من السلطة كان بعيدا عن المجتمع، والمثقف القريب من مجتمعه مشتبك دائما مع السلطة، وهناك من المثقفين المشتبك مع أقرانه من المثقفين والدولة والمجتمع معا. إلا أن البحث عن الحقائق والتعقّل في وزن الأمور لصالح العباد والبلاد هو ما يجب أن يلتزم به.