قدّم معرض الإنتاج الجزائري الذي يسدل ستاره غدا، بعد أن جلب اهتمام المتعاملين والمستهلكين إلى جانب الباحثين عن مشاريع للاستثمار صورة مقرّبة عن واقع وتطلعات المؤسسات الجزائرية في كل القطاعات الاقتصادية. الموعد بحد ذاته الذي افتتحه عبد المجيد تبون مباشرة بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية أعطى إشارة عملية للانطلاق في بناء مسار الجزائر الجديدة على أسس صلبة، عمادها إنتاج الثروة وانخراط كافة الشركاء في توّجهات التحوّل الضروري لتفكيك الارتباط العضوي بالمحروقات التي لطالما بقدر كانت لا تزال وقودا للنمو بقدر ما تحوّلت إلى كابح له نتيجة ترّسبات لثقافة الريع في أوساط تتولى منذ عشريات إدارة المنظومة الاقتصادية وارتباطاتها بمراكز القرار السياسي. شكل المعرض في ظل معركة إعادة الانتشار الاقتصادي بالمعايير السليمة بحيث يعود كل طرف معني إلى مربعه الحقيقي، نقطة مركزية للشروع في شق الطريق الصعب بأهداف محددة بدقة، ومعالم واضحة ترشد الاستثمار في ظل مناخ جديد لا مجال فيه لبقايا البيروقراطية التي لا تزال بعض مراكزها تقاوم المنهج الجديد، بتعطيل انجاز الخيارات أو التردّد في مواكبتها أو بالنسبة لبعض جماعات المصالح وخاصة تلك المرتبطة بجهات أجنبية لا تريد للجزائر الرفع من معدل نموها في خوض حرب اقتصادية غير معلنة، من خلال ممارسات الفساد المختلفة. بهذا الصدد، كان تبون واضحا، ويتوقع في ضوء مؤشرات رؤيته لإعادة تنشيط عجلة الاقتصاد بأسرع ما يمكن التي كشف عنها يوم تنصيبه على رأس الدولة قادما على متن إرادة شعبية شهد لها العالم واقتنع بها منافسوه، بإعطائه إشارات موجهة إلى كل المتدخلين في الساحة تعطي تطمينات للمتعاملين والمستثمرين الذين وصفهم ب «الشرفاء» ومرافقة أصحاب المشاريع التي تتطابق مع احتياجات النمو، وتندرج ضمن ورقة طريق الجزائر الجديدة، كما كان صارما في مخاطبة غيرهم ممن يصّنفون بحكم معطيات ملموسة في خانة محترفي الفساد عن طريق الغش، النهب، تضحيم الفواتير، التهرب الضريبي، التحايل الجمركي، عدم التصريح بالعمال وكل ما يفقد للمجموعة الوطنية حقوقها المشروعة. التحوّل المرتقب وهو عبارة عن مخاض يتم في السوق بكل قطاعاتها، يبدأ من الأطراف التي تنشط فيها بحيث ينبغي أن يتم إحداث الفرز لتشكيل قوة مؤسساتية جديدة بممارسات حديثة ومنهج مناجيريالي مطابق للمعايير، تعيد تشكيل الجسم الاقتصادي له المناعة في مواجهة تحدّيات المنافسة بعد إزالة تلك «الطحالب» التي أضرت كثيرا بالاقتصاد وعطلت النمو خاصة لما تشكلت منظومة الفساد التي قادتها العصابة وأذنابها المترابطة قبل أن تسقطها الديناميكية الاحتجاجية التي رافقتها القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي طيلة عشرة أشهر توّجت بانتخاب رئيس للجمهورية هو نفسه يدرك مدى عمق التحوّل المطلوب لمرافقة صمود المؤسسات الدستورية بصمود مثيلاتها الاقتصادية. ملامح مواكبة التغيير بدأت ترتسم في مشهد القطاع الخاص، بإعلان بعض المتعاملين الذهاب إلى تشكيل إطار تمثيلي جديد بقناعة تنسجم مع الوضع الراهن بعد فقدان الثقة في تنظيم هيمن سابقا على الساحة واستحوذت لوبياته على سوق الاستثمار في سنوات تراجع فيها دور الضبط والمراقبة وتتبع مسارات التمويل العمومي حتى خرجت تلك الأرقام المهولة من فساد أحبط العزائم وأبعد النزهاء نتيجة غلق المجال، الذي يرتقب أن يعاد فتح أبوابه مجددا مع دخول السنة الجديدة، التي يتوقع أن تكون عام مكاسب تعود بثمار طيبة لكل أطراف المعادلة ومنها المواطن بالأساس. يكون هذا المسعى الضروري ضمن إعادة رسم جديد للخارطة الاقتصادية، من خلال رصد المؤشرات الدقيقة والموثوقة وتقييم أداء الهياكل وترتيب آليات المرافقة المالية والإدارية، بإدخال أدوات المرونة والاستشراف بإقحام الجامعات ومراكز الحلول الذكية بواسطة أدوات اقتصاد المعرفة والتكنولوجيات الجديدة، تضع النسيج المؤسساتي وبالذات القطاع العام على وقع ديناميكية المرحلة بحيث هناك عمل كبير ينبغي أن يتم على مستوى إدارة الرأسمال التجاري للدولة، بتطوير مقاربة تسيير المساهمات العمومية وفقا لترتيبات وآليات أكثر مرونة تعطي للمؤسسة إمكانية المبادرة أكثر وتقليص عبء الوصاية المزدوجة، التي تمارسها مراكز القرار السياسي على مستوى الدوائر القطاعية للوزارات، من جهة وتلك التي تصدر أيضا عن أجهزة الوصاية الاقتصادية التي تمارسها شركات تسيير المساهمات، وقد أظهرت الصيغة الراهنة للتنظيم الهيكلي للمظلة الفوقية محدودية في انجاز أهداف النمو، بل زاد عبؤها على المؤسسة نفسها. في نفس الاتجاه يتطلب خيار النهوض، مراجعة التنظيم الهيكلي الذي يحكم المؤسسات نحو تحرير أكثر للمبادرة مع ضبط آليات مراقبة التسيير، بحيث من الضروري كسر كل مواقع الهيمنة على القرار وتوسيع نطاق المشاركة من المنتجين بعيدا عن التدخل المباشر في التسيير، بإحداث آليات تعطي الفرصة للكفاءات في المشاركة، وذلك بالذهاب مباشرة إلى كسر مراكز النفوذ بالفصل بين رئاسة مجلس إدارة المؤسسة والمدير العام مع إعادة تجميع الفروع ورسم خطوط التسيير المالي والبشري للحد من تصرفات غير مسؤولية لطالما تحملتها المؤسسة العمومية في التوظيف العشوائي، وفقا لولاءات واعتبارات تكلف الدولة الكثير وإطلاق اليد للمسير في تبذير المال العام تحت غطاء مشاريع وعمليات وهمية لا رائحة اقتصادية لها، بل أحيانا تدخل في إطار أعمال لغايات أخرى بعيدة تماما عن مصالح المؤسسة الاقتصادية. لذلك المرحلة، بالنظر للتداعيات التي تنذر بها الأزمة، مع تسجيل عناصر اقتصادية منها وأخرى سياسية، تعطي الأمل للنهوض مجددا، تتطلب اعتماد مفاتيح الأزمة من خلال الإسراع مباشرة، بعد تشكيل الجهاز التنفيذي الجديد، في تخليص المنظومة من ترّسبات العصابة، بإعادة تموقع معيار الكفاءة والمبادرة والجدّية في إدراج الموارد البشرية في معادلة النمو بحيث أن ساعة وضع الثقة في الإطارات الجزائرية حلّت بحلول عهد جديد عنوانه نهاية الزبائنية، الولاء الحزبي، الشخصنة، الجهوية، الارتباط بلوبيات الفساد وشراء الذمم، وكلها ممارسات لها كلفة اقتصادية لم يعد ممكنا للدولة أن تتحملها. بهذا الخصوص وبالموازاة مع إعادة تنشيط أجهزة الرصد والتحليل وانفتاحها على الطاقات الوطنية، على غرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي ليستعيد دوره كطرف نقدي للسياسات العمومية، هناك بالتأكيد عمل كبير على صعيد مراجعة الترتيبات القانونية التي تؤطر الاقتصاد والمؤسسات، مع تفعيل دور القضاء بتقليص الإجراءات المعطلة للحقوق والمكلفة لأصحابها وتبسيط آليات طلبها والسرعة في تنفيذها مع ضبط الضمانات، علما أن فسادا آخر لا يقل خطورة تسلل إلى هذه المنظومة ونال من شرف بعض من يتولون الدفاع عن القانون والحقيقة، ويجري العمل على إصلاحها في عهد الوزير الحالي العارف بالخبايا والمطلع على الاختلالات. دوائر أخرى لا ينبغي أن تبقى على الهامش كالمتفرّج، وهي من المعنيين مباشرة بمرافقة العبور إلى اقتصاد إنتاجي ومتنوع بعيدا عن شعارات ظرفية أو وهمية، ويتعلق الأمر هنا بالمنظومة البنكية التي بدأت تسير إلى مرحلة أكثر نجاعة بتعيين متصرفين في مجالس إدارة البنوك لتعزيز المراقبة الاحترافية وليست البيروقراطية، بحيث يكون المجال رحبا أمام الطاقات التي تستوعب التغيير البناء والنابذ للفساد ليرتقي أداء التمويل في الساحة الاستثمارية، وفقا لأهداف اقتصادية بحتة تكون بطبيعة الحال بحجم الإمكانيات المتوفرة والالتزامات المسطرة. بهذا الصدد لا يمكن أن تستمر ممارسات أثّرت سلبا على السيولة المالية بالبنوك التي يلزمها الظرف، وهو من صميم مهامها، للشروع في مراجعة إجراءاتها باتجاه رصد الاحتلالات وتتبع مآلات القروض الممنوحة والحرص على استرجاعها أو ما أمكن على الأقل في انتظار ان تحسم العدالة في ملفات الفساد، الذي تبقى مكافحته أحد الأهداف الكبرى في المدى القصير لتعزيز الثقة وتطهير السوق.