يتدعم جهاز الرقابة على الأسواق الجزائرية سنويا بإضافات في الكوادر البشرية، وتستثمر الحكومة في الأدوات التشريعية وفي الخطاب السياسي المطمئن للأسواق، وفي كل مرة يجد المواطن نفسه محاصرا بظواهر ثلاث : فوضى الأسعار، الغش في المعروض، تذبذب العرض من المنتوج. والسبب في ذلك واضح: السوق الجزائرية تشكو من هشاشة هيكلية ناجمة عن هشاشة الهيكل الانتاجي وعن تبعيتها للسوق الخارجية، حيث تتشكل أسعار المواد واسعة الاستهلاك بشكل اصطناعي وتبعا للتحالفات في الأسواق الدولية المدعومة بشكل استراتيجي من لوبيات منظمة وقادرة ونافذة. أما المواد المنتجة محليا، فهي الأخرى لا تتمتع بالقدر الكافي من شروط انتاج الحجم ولا هياكل التخزين ولا استقرار أسعار المواد الأولية ولا الحكمة الجبائية، مما يؤثر سلبا على مستوى الأسعار ويدفع الى الاحتكار والمضاربة. والدليل على ذلك أن السوق الموازية وحدها هي التي توفر شروط السعر المناسب والكمية المطلوبة لأنها بعيدة عن أثر السياسات الحكومية وتجسد قمة التهرب الضريبي. وعندما نعلم بأن 40 في المائة من المعاملات التجارية بالجزائر والتي يبلغ حجمها 100 مليار دولار تجري داخل السوق الموازية، فهذا يعني أن سوقا كاملا للشغل تشكلت بعيدا عن عين الحكومة وأن تدفقات نقدية كبيرة تتداول يوميا خارج أطر الجباية ، وأن قيم تجارية أخرى تحكم الأسواق غير القيم المتعارف عليها. ولهذا من الصعب أن نفهم جدوى الرقابة القطاعية أو الحكومية في نظام للتجارة هذه طبيعته، وعلى السلطات المعنية تجاوز فكرة الرقابة المباشرة إلى البحث عن أدوات الشفافية وكسر الاحتكار المنظم وحفز الجوانب الأخلاقية في سلوك كل من المستهلك والتاجر ومؤسسات الدولة ذات الصلة بتنظيم الأسواق. صوم رمضان يعلمنا يعمل صوم رمضان الحقيقي ئفي اتجاه استقرار الأسعار خلال الشهر الفضيل، لأنه يحدد الطلب الكلي في الأسواق بدقة بسبب نموذج استهلاك الصائم الموحد في كل الأسر، وهذا ما يساعد التاجر والمنتج على بناء توقعاتهم بدقة، مما يجعل العرض مقاربا للطلب ، ويختفي بذلك الخلل بين قوى السوق وهو ما ظلت المدرسة التقليدية تبحث عنه منذ نشوءها. وحتى عندما يزيد الطلب الكلي في رمضان بسبب أثر الريح المرسلة أي انتقال التدفق النقدي من محفظة الميسور إلى محفظة الفقير، فإن المستثمر يتوقع ذلك بدقة فيزيد من انفاقه الاستثماري بدافع الربح ومواكبة الطلب على خلفية الأثر النبوي الذي رواه البخاري عن عبداللّه بن عباس رضي اللّه عنه: ''كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة''، ولو تمكن المسلمون من ضبط سلوكهم الاستهلاكي على سلم الهدي الاسلامي والصوم جزء منه لأمكن ضبط سلوك التاجر والمنتج والمستثمر على حد سواء، مما يساعد على تحقيق سعر التوازن الذي يميل نحو الانخفاض على وقع أثر العرض الزائد، ويعفي الحكومة من كثير من عناء الرقابة المباشرة. وفي مجال المنافسة الكاملة وشفافية الأسواق يعمل الصوم على تدريب الأعوان التجاريين على التخلص من آفة الاحتكار وظاهرة الاكتناز، حيث تجمع نصوص الصوم على خضوع التاجر الصائم لمبدأ ''السلامة الشرعية'' في معاملاته كلها، فقد جاء في الحديث الذي رواه النسائي وابن ماجة: ''كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش''، ويفسر هذا الحديث حديث آخر أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق هو: ''إنما الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته''، ويعني ذلك أن للصوم شروطا تقنية لا يقوم إلا بها ومنها عدم الاضرار بمصالح ومنافع الغير، والاحتكار من أخطر عوامل التضخم لأنه يضغط على قوة العرض ويزيد في السعر كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم: ''من احتكر فهو خاطئ''، وواضح من مبدأ تشابك العلاقات الاجتماعية أن خطأ التاجر يجر معه أخطاء أخرى ربما يرتكبها المستهلك مثل ''التخزين'' ويرتكبها المنتج مثل التحالف المؤدي إلى فرض أسعار اصطناعية وهي غير الأسعار التنافسية التي عناها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حديث أبي هريرة الذي أخرجه أبوداود: ''جاء رجل فقال يا رسول اللّه سعر، فقال: بل اللّه يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى اللّه وليس لأحد عندي مظلمة''، ويرتكبها المستثمر عندما يغادر القطاع الانتاجي الذي يتميز بشدة الاحتكار التجاري بما يعقد من مشكلة الندرة. ضرورة التوجيه الديني للأسواق ومعنى ذلك أنه تحت شروط السلامة الشرعية تتوازن الأسعار بصورة آلية أي استجابة لسنّة التوازن التي أودعها اللّه تعالى الأسواق في ظروف الشفافية أي تقوى اللّه في المعاملات التجارية، وبالتالي يحسن من الحكومة أن تستثمر في البعد الديني لسلوك التاجر والمنتج والمستهلك معا، وكما تنسق وزارة التجارة مع وزارة الفلاحة وقطاع الجمارك، يحسن التنسيق مع قطاع الشؤون الدينية للتبشير بقدرة التوجيه الروحي على التأثير ايجابيا في قطاع الأسواق، وأبعد من ذلك يحسن التنسيق مع قطاع الاتصال لإشراك وسائل الاعلام الثقيل في إطلاق سلوك تجاري جديد وراق عن طريق برامج ذكية ومدروسة. أما صحة المواطن بين أجندة التجار ووجهة نظر الصيام فموضوع ذو شجون، ولكن المؤمن يعرف أن من مقاصد الشريعة الاسلامية ''حفظ النفس''، ومن إعجاز الاسلام أن النفس محفوظة في مقاصده كما هو المال، وكما يجتهد التاجر في حفظ ماله وتنميته فلا يجوز له ذلك على حساب نفوس المستهلكين أو كما فهمت ذلك السلطات العليا في البلاد. حقيقة، إن دروسا من ذهب يمكن لصوم رمضان أن يهديها للسلطات العمومية وهي تبحث عن السياسات الملائمة لضبط الأسواق ولكن ربما الأمر يحتاج إلى وقت أطول أي إلى الوقت الذي يقتنع فيه الجميع بأن ''الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها'' ، وتقبل اللّه صوم الجميع. ¯ بشير مصيطفى ¯