على الواجهة البحرية الوُسطى لمدينة الجزائر العاصمة، ينتصب حصن عملاق يُرى من بعيد، تعرفه المدينة ويعرفها منذ مئات السنين، فقد دافع عنها طيلة ثلاثة قرون ضد الغزو الأوروبي، إنه «قصر رياس البحر». بنى العثمانيون هذا الحصن سنة 1576 أسفل حي القصبة العتيق بأمر من رمضان باشا، الحاكم العثماني للجزائر سنتي 1576 و1577، واستمر بناؤه سنوات طويلة، حيث كانت السلطات توسّعه في كل مرة وتطوّره لزيادة مساحته وقدرته على مواجهة الهجمات الأوروبية. يُعرف قصر رياس البحر أيضا باسم «الحصن 23»، وهي تسمية أطلقتها عليه السلطات الاستعمارية الفرنسية، ولقيمته التاريخية صنّفته المنظمة الأممية للثقافة والعلوم «يونيسكو» سنة 1990 تراثا عالميا محميّا، ضمن مدينة القصبة الأثرية المحمية ومعالمها الأخرى. بُني القصر في منطقة تسمى «قاع السور» (حي السور السفلي)، وكان أشهر المقيمين فيه الرايس مامي أناؤوط، أحد أشهر رياس البحر في البحرية الجزائرية في نهاية القرن 16، وكان إقامة رسمية لكثير من رياس البحر ومنه كانوا يصدّون الغزاة. زُوّد قصر رياس البحر بسقف مُجهز ومدعم ليسع عددا كبيرا من المدافع الكبيرة المصوّبة نحو البحر لتدكّ سفن الغزاة الإسبان أو الهولنديين أو البريطانيين أو الفرنسيين والدنماركيين. وصَف الرحالة الأميركي وليام سبنسر هذا الحصن في كتابه «الجزائر في عهد رياس البحر»، قائلا «أما القصبة فقد أحيطت بقلاع واستحكامات مجهزة بقوة نارية للدفاع عن مدينة الجزائر. لقد كان مجموع القوة النارية عظيما». ويضيف «لقد استحقت مدينة الجزائر المحروسة اسمها عن جدارة كاملة من تلك الاستحكامات التي بناها الأتراك، فقد قوّوا دفاعاتها بعناية كبيرة وبدرجة عالية من المهارة العسكرية وحافظوا عليها بعناية مماثلة». من جهته أورد الباحث في التاريخ الشيخ مبارك الميلي في كتابه «تاريخ الجزائر في القديم والحديث»، أن «المانع الذي حال دون احتلال الجزائر في تلك الفترة هو مناعة المدينة، التي تمكنها من الوقوف في وجه كل محاولة احتلال قادمة من طريق البحر». ويسترسل الميلي، موردا تصريحا للقنصل الفرنسي في الجزائر كيرسي، قال فيه «إن الجزائر هي المدينة الوحيدة في العالم، التي تستحق أن تُسحق بواسطة آلة جهنمية، لكننا لسنا متأكّدين من تأثير ذلك، لكي نقدِم على المحاولة». وذكر الميلي أن القوات الفرنسية عندما تمكّنت من احتلال مدينة الجزائر «لم تدخل عبر واجهتها الرئيسية، حيث قصر رياس البحر، بل دخلت من مؤخّرة المدينة». ويتكون قصر رياس البحر، من ثلاثة قصور هي القصر 17 والقصر 18 والقصر 23 و6 منازل بسيطة تسمّى الدويرات (تصغير دار) إحداهن مصلى، لكن بفعل الزمن والاستعمار تهدّمت بنايات من قصر رياس البحر وبقيت فقط البناية الرئيسية، ما استدعى تدخل السلطات رفقة خبراء دوليين من «اليونسكو» لترميم القصر في الثمانينات. وفي عام 1994 حوّلت السلطات قصر رياس البحر إلى مركز للفنون والثقافة تُقام فيه المعارض التشكيلية والندوات التاريخية، ويستقبل يوميا الزوار من عشاق التاريخ، كما تنظّم فيه معارض خاصة بالتاريخ.