نشر الديوان الوطني للاحصائيات مطلع الأسبوع الجاري دراسته عن مؤشرات الشغل والبطالة في الجزائر للعام 2011. والنتيجة التي تؤكدها الدراسة فيما له علاقة بالاقتصاد الكلي هي: استقرار نسبة البطالة للعام المذكور عند نسبة 10 بالمائة، وتراجع البطالة بين حاملي الشهادات من 24 بالمائة سنة 2010 إلى 16 بالمائة في 2011. فماذا تعني هذه الأرقام من زاوية نظر الاستقرار الاقتصادي ؟ وكيف تبدو اتجاهات التشغيل في الجزائر في أجواء تناقض المؤشرات الاحصائية والاجتماعية وتنامي ظاهرة ''الحرقة'' في وسط المتعلمين وبين الجنسين معا؟ تضارب الأرقام قبل صدور الأرقام الأخيرة كان الديوان الوطني للإحصاء نشر تقريرا آخر عن الربع الأخير من العام 2010 خلص فيه الى أن 50 بالمائة من سكان الجزائر فوق سن ال 15 عاما لا ينتمون للفئة العاملة ويعني ذلك 1 . 15 مليون نسمة، وإذا استثنينا من ذلك المتمدرسين وعددهم يدور حول ال 8 مليون، والجامعيين وعددهم 5 . 1 مليون، والمتقاعدين وعددهم 4 . 2 مليون، ثم العجزة غير المنتسبين لأية فئة من الفئات المذكورة لكان المتبقي قريبا من 3 مليون، وهو رقم بعيد جدا عما أعلن عنه مؤخرا أي 1 مليون نسمة، ولكنه قريب من إحصائيات كان نشرها صندوق النقد الدولي والتي تقدر البطالة في الجزائر بنسبة 20 بالمائة ما يعني 2 مليون شخص، وقريب أيضا من تقديرات المصادر المستقلة التي تقدر مخزون البطالة ب7 . 1 مليون. ربما يعود السبب في اختلاف التقديرات في المؤسسة الواحدة أو بين مؤسسات عدة الى الجانب المنهجي أي الى تعريف البطالة من حيث طبيعة الوظيفة والقطاع الاقتصادي أو المنزلي الذي تنتسب إليه. وفي كل الأحوال فإن النتيجة لا تختلف من حيث المضمون: سوق الشغل بالجزائر غير مرن ما دامت الوظائف المنشأة لا تتناسب مع حجم الاستثمارات الكبرى في جسم الاقتصاد خلال العشر سنوات الأخيرة والتي لامست سقف 400 مليار دولار والدليل على ذلك وحسب أرقام الديوان الوطني للإحصائيات فإن تراجع البطالة بين 2009 و2011 لم يتعد 2 . 0 نقطة مئوية أي من 2 . 10 بالمائة إلى 10 بالمائة في حين تسجل الزيادة السكانية السنوية 8 . 1 بالمائة ما يعني أن استجابة سوق الشغل في الجزائر لقرارات الاستثمار وضخ السيولة لاتزال محتشمة خاصة بعد مضي 16 سنة عن الشروع في تطبيق برامج تشغيل الشباب بصيغها الأربع. أين الخلل ؟ نقرأ من أرقام الديوان الوطني للاحصائيات أن البطالة في الجزائر تعني المناطق الحضرية أكثر من الريفية، والفئة المتعلمة أكثر من الفئة غير المتعلمة، وأصحاب الشهادات والجامعيين أكثر من خريجي التكوين المهني. نتيجة لها علاقة بثلاثة عوامل أساسية: التوزيع الديموغرافي للسكان بين المدن والمناطق الريفية، طبيعة القطاعات الطالبة للعمل، وأخيرا منظومة التكوين الجامعي. وبرأيي تكون المقاربة المثلى في مثل هذه الحالة الخاصة بجميع الدول العربية التي تمتلك سياسات اجتماعية هي مقاربة التخطيط للتشغيل بأهداف الاقتصاد الكلي وليس المؤسسة حيث بدا واضحا أن ضخ السيولة في انشاء المؤسسات في اطار قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أو قطاع تشغيل الشباب أو حتى انعاش مؤسسات القطاع العام، قد انتهى الى الطريق المسدود. التخطيط بأهداف الاقتصاد الكلي يعني إطلاق تنمية جهوية واسعة ومتينة في المناطق الريفية والداخلية، الاستثمار أكثر في القطاعات ذات المحتوى الفني والتكنولوجي بنسبة محددة من الاستثمار الكلي لا تقل عن ال 40 بالمائة، وأخيرا إعادة النظر جذريا في منظومتي التعليم العالي الذي عليه التوجه نحو العلوم التطبيقية، وإعادة تصنيف شهادة نهاية التعليم الثانوي بحيث تكتسب المهن المتأتية عنها قيمة أعلى من التكوين الجامعي. قرارات السوق تجمع كل نظريات التشغيل في أدبيات الاقتصاد أن قرارات الطلب على العمل هي من قرارات الأسواق وليس من قرارات السكان. فلا يكفي أن يعرض الشباب عضلاتهم ومعارفهم حتى يعملوائ إلا في حالة واحدة وهي حالة الرواج. ولكن التشغيل مرتبط أكثر بقرارات المؤسسة المنتجة عندما يتعلق الأمر بالعائد على الاستثمار. وفي حالة الجزائر لا يتعلق الأمر بالرواج ولا بالعائد على الاستثمار ولكن بضخ السيولة ضمن برامج الانفاق العمومي وتسيير الميزانية العامة للدولة. هذه الصورة النمطية للاقتصاديات المبنية على الريع هي التي أفرزت لنا سوقا للشغل غير مرن كما هو قطاع المؤسسات الخاصة، وسوقا آخر متشبعا كما هي قطاعات الطاقة والخدمات، وسوقا ثالثا مهددا كما هي قطاعات النسيج والجلود والحرف والاستثمار الأجنبي. لماذا لا تطلق الحكومة نسيجا من المؤسسات في قطاعات مدروسة وتناول الجامعيين في ادارتها ؟ لماذا لا تحول الحكومة صندوق الجنوب والهضاب الى صندوق وطني للتنمية الجهوية ؟ لماذا لا تقيم الحكومة برامج تشغيل الشباب بعد 16 سنة من انشائها ومن ثمة اخضاعها للدراسة كموضوع اقتصادي ؟ وأخيرا، لماذا لم تفرج الحكومة لحد الآن عن الاستراتيجية الصناعية التي شرع في تصميمها منذ 6 سنوات والتي بشر مهندسوها يومها بعهد جديد للجزائر عنوانه النهوض الاقتصادي الشامل ؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها سيضعنا وجها لوجه أمام اتجاهات التشغيل في الجزائر ليس لسنوات معدودة ولكن لعشرات السنين قادمة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.