تعدّ صناعة السّفن محليّا ضمن التّحدّيات التي ترفعها الجزائر في الوقت الحالي، فالبلد الذي يملك ساحلا يمتد على طول أزيد من 1600 كلم، تقابله سوق هامّة في الصيد البحري، وهو ما تعمل عليه الدولة من خلال دعم ومرافقة كل النّاشطين في هذا المجال، بمنح التّسهيلات من أجل إطلاق صناعة محلية للسّفن، تسمح بتطوير الأسطول الوطني والرّفع من القدرات الإنتاجية. وتنقّلت «الشّعب الإقتصادي» إلى ولاية بومرداس، قصد التقرب من أهم الفاعلين في نشاط بناء السّفن، والتعرف على خبايا إحدى المؤسّسات في هذا المجال. تاريخ صناعة السّفن بالجزائر حافل بالإنجازات ويحظى بسمعة جيّدة في المنطقة، فتاريخ المحروسة، يملأ المذكّرات والكتب، حيث كانت صناعة السّفن بالجزائر تقليدا وحرفة منذ القدم، تتكيّف مع الحاجة والزّمن. تعمّقاً في تاريخ بناء السّفن الجزائرية، يؤكّد رئيس مصلحة الصيد البحري والصيد القاري، بمديرية الصيد البحري ببومرداس، سيد أحمد بوحمّار، أنّ صناعة السفن بتاريخها المعروف في الجزائر، بدأت عن طريق المهنيين ومحترفي مهنة النّجارة، الذين أبدعوا في صناعة سفن الصيد كأسلافهم الذين شيّدوا سفناً حربية في قديم الزمن. بينما في الوقت المعاصر، تمكّن المهنيّون ومحترفو صناعة السّفن، من مواكبة التطور الذي طرأ على هذه الحرفة، فبعد الاستعمار أصبحت للسّفن مخطّطات هندسية تُجسم بنيتها النّهائية مثل تلك الخاصة بالمنازل، وأسّس أهل الاختصاص شركات تمتهن ترميم وبناء سفن الصيد ساهمت في تطوير القطاع. وحول تطوير مشاريع الراغبين في الاستثمار بمجال صناعة سفينة، قال محدثنا إنّ عليهم التواصل مع إدارات قطاعات النقل، الصناعة والصيد البحري، مشيراً إلى أنّ بناء سفينة جديدة أو اقتناءها يتطلّب ترخيصاً مسبقا من إدارة الصيد البحري، قبل الترخيص الممنوح من وزارة النقل. وأضاف بوحمّار: «لو نعود للقانون سنجد مواد قانونية تتحدّث عن الاقتناء ومواد أخرى تتحدّث عن البناء»، لذا فالمشرّع فصّل في العمليتين وفق ضوابط ومعايير تراعي حجم ونوعية السّفن، خاصة التي يتم اقتناؤها من الخارج. بومرداس قبلة أصحاب السّفن للتّرميم والصّناعة تطرّق ذات المتحدّث، إلى تاريخ بومرداس في بناء السّفن الخشبية، فقد كانت معروفة في فترة الثمانينات وإلى غاية العشرية الأولى من الألفية الثانية في بناء هذا النوع الذي يصل طوله إلى 18 مترا، لتدخل بعدها عهداً جديداً يتمثّل في استعمال تكنولوجيا الألياف الزّجاجية ومادة الراتنج الاصطناعي «la résine»، وهي مادة تنقسم إلى أنواع عديدة وتستعمل في مختلف النّشاطات الصّناعية، حيث يستغل في صناعة السفن الحالية، مع تقويتها بالألياف الزّجاجية. وأشار بوحمّار، إلى وجود عدّة مؤسّسات مختصّة في صناعة السفن بالولاية، كتلك المتواجدة ببلدية خميس الخشنة، بالإضافة إلى ورشات أخرى في دلس، حيث يتواجد ثلاثة مصنّعين لقوارب الصيد الصغيرة بسيدي داود، وكل هذه المؤسّسات المتخصّصة في صناعة السفن، تصنّف ضمن القطاع الخاص بما فيها شركة «كوريناف» بزموري. وأوضح المسؤول، أنّ النّقلة النوعية في صناعة السفن التي شهدتها الولاية، سُجّلت خلال مرحلة الانتقال من صناعة السّفن الخشبية إلى تلك المصنوعة من الألياف الزجاجية، فالأخيرة وبالإضافة إلى خصائصها المتميّزة، تتماشى والسياسة العالمية في الحفاظ على الطبيعة، بالتخلي عن استعمال الأشجار في إعداد خشب السفن. كما أنّ عملية بناء السفينة بالألياف الزجاجية تقتصد الجهد، الوقت والمال، على عكس السفن الخشبية التي تتطلّب عمليات صيانة متجدّدة ومكلّفة، إذ يضطر أحيانا صاحبها إلى نزع قطع منها وتعويضها في حال تلفها بفعل العوامل البحرية. ويؤكّد بوحمّار أنّ السّفينة المصنوعة من الألياف الزجاجية ومادة «لاريزين» أكثر أماناً لكن هذا لا يعني الاستغناء بشكل كامل عن الخشب، لأنّ بعض القطع والأجزاء في السّفينة تظل تصنع منه. كما أنّ سفن صيد التونة التي تمتلكها الجزائر كلّها مستوردة، وتتطلّب تكاليف ضخمة من أجل تغطية نفقات استيرادها، إذ يتراوح سعر سفينة صيد سمك التونة الواحدة في الدول الأجنبية ما بين 3 و5 مليون أورو، وتختلف حسب الحجم وما تحتويه هذه السفن من تكنولوجيات حديثة مستعملة في الصيد في أعالي البحار. وأشار بوحمّار وهو مفتش صيد دولي سابق، إلى أنّ صناعة سفينة صيد التونة محلياً ستوفّر حوالي 50 بالمئة من تكلفة استيرادها، وهي التي كانت تكلّف ما يقارب 5 مليون أورو للقطعة الواحدة، وأشار إلى أنّ اليد العاملة الأجنبية التي تساهم في صناعة السفينة بالخارج تكلّف هي الأخرى الكثير، إضافة إلى إمكانية متابعة تقدّم ورشة صناعة السفينة محلياً دون الحاجة الى تأشيرة أو السّفر نحو البلد المصّنع. ويقول «نفس الشيء ينطبق على الإدارة التي هي أيضا مطالبة بمتابعة المشروع عن كثب، كما أنّ الكثير من مكوّنات السّفينة متوفّرة هنا، ما يشجّع على خوض تجربة صناعة أكبر سفينة صيد بالجزائر». وأفاد أنّ هناك أجزاء من السّفينة لا يمكن لأيّ بلد تصنيعها، بما أنّها علامات مسجّلة كالمحرّكات وبعض التقنيات، وحتى التصاميم التي تتطلّب الترخيص لصنع مثيلتها في غير موطن العلامة، لكن هذا لا يمنع من المساهمة في تصنيع أجزاء من المحرّك، والتقليل من استيراد العتاد الذي يخص السفينة بشكل كامل. معايير عالمية وأنواع مختلفة من جهة أخرى، يوضّح محدثنا، أنّ صناعة السّفن بالجزائر تخضع لمعايير عالمية صارمة، مثلما هو الحال في التجربة الحالية مع صناعة سفينة صيد التونة، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال التهاون مع معايير السّلامة، التي وإن اختلفت تقنياتها من سفينة لأخرى، إلاّ أنّ هناك أنظمة عامة يستلزم وجودها في أيّ سفينة مثل نظام رصد السفن «VMS». بالمقال، كشف بوحمّار عن تمكّن ولاية بومرداس من صناعة أكثر من 500 سفينة مختلفة الأحجام منذ 2015، دعّمت بها الأسطول الجزائري بشحنة من قوارب صيد للمهن الصغيرة والكبرى وقوارب للنزهة. كما أوضح محدّثنا إلى أنّ قوارب الصيد المخصّصة للمهن الصّغيرة تختلف في حجمها ابتداءً من 4.80 متر، و4.90 متر، 4.96 متر، 5.30 متر، 6.10 متر، 7 متر، 9 متر، 10 متر، 10.50 متر، 11.95 مترا، 12.50 مترا. وبالإضافة إلى قوارب الصيد الصغيرة، يوجد نوع آخر وهو «سفن السردين les sardiniers» التي تصنع بالجزائر، فهي مجهّزة بتقنية خاصة تكشف عن أماكن تجمّع الأسماك ما يسهل صيدها، وتختلف هذه القوارب في الحجم، إذ لا يتجاوز طول أصغرها 12 متراً، فيما تصنع أخرى بطول 16 مترا إلى 26 مترا من مادة الراتنج الاصطناعي «la résine». صفات تحدّد مناطق الصيد من جانب آخر، جرى تقسيم مناطق الصيد البحري إلى ثلاث، الأولى التي لا تبعد عن الشاطئ سوى مسافة 6 أميال، وهي المنطقة السّاحلية، ويسمى الصيد فيها بالصيد السّاحلي، وتصطاد فيها أغلب سفن الصيد بالجزائر، كونها تلبّي المعايير الدولية والوطنية للصيد البحري، أمّا المنطقة الثانية فتبدأ من انتهاء الأولى، أيّ من خط 6 أميال، وإلى غاية 12 ميلا، ثم المنطقة الثالثة التي تعرف بأعالي البحار، وتبدأ من خط 12 ميلا فما أكثر. يُشترطُ في سفينة الصيد ثلاث قواعد تتعلق بالطول والحمولة وقوّة المحرك، لذا من أجل الصيد في المنطقة الأولى، فالمعايير تفرض على السّفينة ألاّ تتجاوز قوّة محرّكها 503 حصان، وألاّ تفوق حمولتها 90 طنا، وطولها يكون في حدود 24 مترا أو أقل، وإذا حدث أن أخلت السّفينة بأحد هذه الشروط، فيمنع عليها الصيد في المنطقة الأولى لتنتقل للصيد في المنطقة الثانية. العقار أزمة تحاصر الموانئ في سياق آخر، أشار مدير الصيد البحري والموارد الصيدية لولاية بومرداس، حمزة حباش، إلى أنّ مشكل العقار يقفُ عائقاً أمام النّهوض بمشاريع صناعة السّفن، مؤكّداً على أنّ المساحة المخصّصة لصناعة السّفن تتطلّبُ دراسة خاصة تأخذُ بعين الاعتبار حجم السفن المراد صناعتها. وأضاف أنّ أيّ مبادرة تصبُّ في صالح النهوض بقطاع صناعة السفن سنرحّب بها، مشيراً إلى أنّ المساحات التي ستخصّصُ لصناعة السّفن بإمكانها ضم نشاطات أخرى كصيانة السّفن وصناعة المحركات، وكل ما يتعلقُ بنشاط الصيد البحري وتربية المائيات. رحلة صنع سفينة التونة الأولى وصلت نسبة الإدماج المحلي في إنجاز سفينة صيد سمك التونة المصنّعة لأوّل مرة بالجزائر إلى 80 بالمئة، إذ وبعد سنتين من العمل المتواصل ستتمكّن شركة «كوريناف» لصاحبها علي شاوش، الواقعة بميناء زموري ببومرداس من صنع أوّل سفينة متخصّصة في صيد سمك التونة بأعالي البحار، وهو المشروع الحلم لصاحب الشّركة الذي بدأ بصنع أول قارب صيد خشبي سنة 1980، واليوم تمكّن رفقة فريق عمله من بناء سفينة بطول 35 مترا، بتكاليف أقل من تكاليف السّفن المستوردة. وقال مدير شركة «كوريناف»، بوعلام حدوش، إنّ أوّل سفينة صنعت لديهم يعود تاريخها إلى 41 سنة خلت، حيث تمّ بناء أوّل سفينة بطريقة تقليدية باستعمال المادة الوحيدة آنذاك لصنع سفن الصيد وهي مادة الخشب، واضعا خبرة 16 سنة في الصيد البحري من أجل صنع السفينة الموجودة ليومنا هذا بميناء دلس. وعاد بعد سنتين من أجل صناعة سفينة صيد أخرى أفضل من سابقتها، ليرسم بذلك أولى صفحات تاريخ شركة «كوريناف»، حيث أضحت من أهم شركات صناعة السفن بالجزائر. وأشار حدوش، إلى أنّ التوجّه نحو صناعة السفن بمادة الألياف الزجاجية «لارزين» أملته الحاجة إلى مادة أكثر صلابة ومقاومة لتأثيرات الماء، كما أنّ الخشب أبان عن عدّة عيوب بالرغم من مميزاته وخصائصه المتعدّدة، والتي ظلّت على مدار أزمنة متعاقبة المادة الأولى لصناعة السفن، لتصبح حديثا مادة الألياف الزجاجية والراتنج الاصطناعي الأفضل لصناعة السفن. . من قوارب متواضعة إلى سفن كبيرة من جانب آخر، يقول بوعلام حدوش إنّ شركة «كوريناف» شرعت في صناعة سفن الصيد بأحجام 10 متر و12 مترا، ومع مرور الوقت والتحكم أكثر في التقنية استطاعت صناعة سفن بحجم 21 مترا، وهو نجاح يعكسه الطلب المتزايد على السفن من قبل محترفي مهنة الصيد البحري، بالإضافة إلى انعدام أيّ شكاوى بخصوص سفن الشّركة. وبدأت الشّركة في صناعة سفن الصيد المهن الصّغيرة، ثم طوّرت من قدراتها وأصبحت تنتج سفن الصيد من نوع «جياب»، المعروفة باللغة الفرنسية باسم «شالوتي-Chalutier» ثم توجّهت لإنتاج سفن صيد السردين، ثم السّفن الخاصة بتربية الأسماك، وهي السفن التي تدعى سفن «الطوف - Catamaran»، وهي سفن مسطّحة مكوّنة من هيكلين متوازيين لهما نفس الحجم يجمعهما سطح واحد يمكن استخدامها للنقل أو كمنصّة ثابتة في البحر من أجل متابعة السمك في الأقفاص. وأكّد ذات المدير، أنّ الوصول إلى صناعة أكبر سفينة في الجزائر لصيد سمك التونة بطول 35 مترا لم تأتِ دون جهد أو صدفة، فبناؤها ثمرة جهود ونجاحات متواصلة، أثمرت «صناعة سفينة أكبر حجماً من سابقاتها، والحلم لم يتوقّف والطّموح كذلك». رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة كانت وزارة الصيد قد أعلنت قبل سنتين عن فتح الباب أمام اقتناء سفن الصيد في أعالي البحار، فاغتنمت شركة «كوريناف» الفرصة لطلب رخصة بناء سفينة صيد التونة، مُقدّمة دراسة مغرية تخفض من تكاليف اقتناء السفن بأكثر من 50 بالمئة، وهو التّحدّي الذي شرع فيه كل المنتسبين للشركة. وأضاف حدوش أنّ التّكاليف التي يتحدّث عنها تعود لدراسة أجريت منذ سنتين، ومع ارتفاع أسعار كل المواد المستعملة في صناعة السّفن، فإنّ التكاليف تضاعفت لكنها تبقى أقل بكثير من الاستيراد، وكشف أنّ كل باخرة تُصّنع بالورشة تتطلّب ملفا تقنيا يتضمّن مخطّطات إنشاء تصل إلى حوالي 12 نموذجا، بالإضافة إلى دفتر التوازن، لأنّ أول ما يتوجّب على السّفينة المصنّعة حديثا إثباته هو قوّة توازنها على الماء، وبعد تحضير الملف يتم إيداعه لدى وزارة النقل، وتتم دراسته قبل التّرخيص لصاحبه من أجل الانطلاق في عملية تصنيع السفينة، أو الإبلاغ عن التّحفّظات التي يستوجب رفعها قبل ذلك. ويؤكّد، أنّ المؤسّسة متحكّمة في تقنية بناء السفن الى أبعد الحدود، والخبرات التي تعتمد عليها محلية، تتمثل في خرّيجي الجامعات ومراكز التكوين بصفة أكبر، وتشغّل «كوريناف» 85 عاملاً مختصّا في النّجارة، وصقل مادة «لارزين» والتلحيم، وميكانيكي السفن، وكلّهم ساهموا في بناء سفينة صيد سمك التونة وفق خطّة عمل منتظمة. وأوضح ذات المتحدّث أنّ المؤسّسة اعتادت على تطوير صناعة السّفن بورشاتها، مشيراً إلى أنّ «نقل الخبرة أمر طبيعي بما أنّنا سنخوض تجربة هي الأولى من نوعها، فصناعة سفينة صيد التونة تختلف عن صناعة السّفن التقليدية، فالقوالب التي تصنع بها سفن صيد التونة، تكون بتقنية ثلاثية الأبعاد «د3»، وتستعمل لمرّة واحدة عكس القوالب الأخرى التي يمكن استعمالها مرّات عدّة. وأضاف مدير الشّركة أنّ الهيكل الخاص بالسّفينة التي تصنع حالياً تمّ الانتهاء منه، بالرغم من عدّة عوامل عطّلت من وتيرة الإنجاز، فجائحة كورونا عرقلت سير الأشغال، إثر توقف العمال عن التنقل إلى ورشة العمل، بالإضافة إلى تأخّر وصول المواد الأولية التي تُصنّع من الألياف الزجاجية والراتنج الاصطناعي. وكشف أنّه اضطر إلى استيراد بعض المواد مباشرة من الخارج، بالرغم من وجود شركة مختصّة في ذلك بالجزائر، وهذا بسبب تأخّر تلبية طلباتهم من المواد الأولية الخاصة بصناعة السّفن. بين الماضي والحاضر ويسترجع علي شاوش، ذكريات صناعة أوّل سفينة خشبية سنة 1980، والتي أنجزها بالتعاون مع عاملين فقط، حيث كانت أوّل سفينة لشركته وجرى إنجازها في مدة وجيزة بطول 12,5 مترا. وحسبه، كانت التجربة الأولى مشجّعة على صنع سفينة أخرى سنتين من بعد، بطول 14.5 مترا، بعد أن كانت في تلك الفترة شركة «سوناكوب» الوطنية تستورد الخشب الخام، فكان يقوم بطلب قطع خشبية من الشّركة تتناسب والسفينة المراد بناؤها، وبعد انتعاش الاقتصاد في مطلع الألفية زاد الطلب على سفن الصيد، فبلغ الطلب ذروته خلال العشرية الأولى من الألفية الثانية، أين تربّعت «كوريناف» على عرش تسيير أشغال 18 ورشة بناء في وقت واحد، لسفن يتراوح طولها ما بين 16 مترا و22 مترا. (عن مجلة الشعب الاقتصادي)