يمكن تحديد مسارات الازمة الأوكرانية استنادا لعدد من المتغيرات: 1- الزمن الذي سيستغرقه الجيش الروسي لبسط سيطرته على أوكرانيا ونزع سلاحها وتغيير نظامها السياسي، ثم المدى الزمني لتحقيق الاهداف الروسية الاخرى وبخاصة الضغط لسحب الترسانة النووية الأمريكية من أوروبا. وتلعب مجموعة من العوامل دورا في سرعة أو بطء الاختراق الروسي مثل الظروف الجوية القاسية والتي تمتد حتى نهاية أفريل، ثم مدى مواءمة الجغرافيا السكانية للعملية الروسية، فطرق الاختراق في المناطق الريفية أسهل كثيرا من المناطق الحضرية، فبعض المدن مثل كييف ( 3ملايين نسمة، وخاركيف مليون ونصف، وأوديسا مليون وزابورشيا ثلاثة أرباع المليون...إلخ)، ناهيك عن مدى توفير الدعم السوقي (اللوجستي) للقوات الروسية، وقدرتها على تقطيع أوصال الجغرافيا الاوكرانية، فهي تسعى للسيطرة على بعض المناطق الاستراتيجية مثل أوديسا(لحرمان أوكرانيا من المنافذ البحرية) أو خاركيف أو كونوتوب لضمان طرق الامداد نظرا لقربهما من الحدود الروسية، أو الوصول لكييف القريبة من حدود بيلوروسيا المؤيدة بقوة لروسيا...إلخ. كل ذلك يعني ان السيطرة الكاملة على أوكرانيا تحتاج لفترة أطول مما تحاول الدعاية الروسية أن تروجه، وعليه كلما طالت مدة الحرب كلما تراجع الحماس الروسي للعملية برمتها. 2- الخيار الاستراتيجي لحلف الناتو بين استمرار الامتناع عن التدخل المباشر لمواجهة روسيا وبين تحويل المعركة الى معركة استنزاف لروسيا، من الواضح أن الناتو أخذ قراره القاطع بعدم التدخل المباشر في الحرب، كما ان الميل الزائد في الدوائر الاستراتيجية الغربية هو تحويل أوكرانيا الى «أفغانستان ثانية» لا من حيث المضمون السياسي والثقافي، بل من حيث ادارة المعركة العسكرية لا سيما ان الغرب الأوكراني مفتوح على أوروبا بشكل يسمح بإيصال المقاتلين والسلاح الى أوكرانيا، وهو أمر يستوجب على الروس توسيع دائرة تواجدهم العسكري حتى الحدود البولندية بخاصة ان مولدافيا جنوبا أقل حماسا للتورط الواضح في أوكرانيا. 3- مدى قسوة العقوبات الاقتصادية على روسيا من ناحية وقدرة روسيا على التكيف التدريجي معها عبر بدائل مختلفة، فمن المؤكد ان بوتين واستنادا للسوابق خلال الازمة الجورجية وخلال أزمة القرم (2008-2014) أعد آليات تكيف مع احتمالات العقوبات الاقتصادية، مثل النظام البديل لنظام SWIFT أو زيادة التحول نحو التجارة مع السوق الصيني على حساب السوق الامريكي والاوروبي، أو من خلال المراهنة على مسألتين في مجال الطاقة: الاولى استثمار ارتفاع أسعار الغاز والنفط لصالح خزينته من ناحية وتداعيات ذلك على الاقتصاد الاوروبي من ناحية ثانية، لا سيما مع ارتفاع الاسعار لهاتين المادتين بين 50 الى 60%، بل يكفي مراجعة أسواق السندات الاوروبية لإدراك الآثار الكبيرة لارتفاع أسعار الطاقة ونتائجها على العائدات ومستويات التضخم. ويشير استطلاع للرأي العام الاوروبي غطى سبع دول أوروبية تمثل 65% من سكان الاتحاد الاوروبي ان الاعتماد الاوروبي على روسيا في مصادر الطاقة يمثل خطرا كبيرا عند 62% من الاوروبيين، كما ان الحماس الاوروبي لمواجهة روسيا في اوكرانيا متباين بشكل كبير فمثلا بلغت نسبة التأييد للدفاع عن أوكرانيا في فنلندا 20%، ألمانيا 37%، رومانيا 40%، ايطاليا 41%، السويد وفرنسا 43% وترتفع النسبة في بولندا الى 65%. وكل هذه النتائج تشير الى ان الحماس الاوروبي ليس بالقدر الذي يحاول الزعماء الاوروبيون اظهاره. أما على الجبهة الامريكية فإن 67% من الامريكيين يؤيدون خيار العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، لكن النسبة تتراجع الى 51% إذا أدت العقوبات الى ارتفاع أسعار الطاقة. وحول الخيار العسكري فإن 26% من الامريكيين يرون ان يكون للولايات المتحدة دور واضح في مواجهة روسيا عسكريا، بينما 52% يرون ان يكون لها دور محدود و20% يرون ان عليها ان لا تتدخل نهائيا. 4- مدى ترابط السياستين الامريكية والاوروبية في ظل هواجس أوروبية من ان تكون اوروبا هي مسرح العمليات في حال التصاعد أو أنها المتضرر الاكبر من العواقب الاقتصادية للأزمة لاسيما في مجال مصادر الطاقة من غاز أو نفط أو بعض المعادن التي تحتاجها الصناعات الاوروبية ومصدرها روسيا أو احتمالات اتساع موجات اللجوء الاوكراني أو من مناطق أخرى لها، وهنا لا بد من التدقيق في توجهات المجتمع الاوروبي، فاستطلاعات الرأي الاوروبية تشير الى ان بعض الدول الهامة مثل ألمانيا يميل أغلب مجتمعها نحو «عدم التورط في الحرب مع روسيا». 5- مدى تناغم السياسة الصينية والروسية لا سيما ان امتناع الصين عن التصويت في الاممالمتحدة يشير الى هامش تباين بين الدولتين لاعتبارات تكتيكية خاصة بكل منهما وليس لتباين استراتيجي. 6- البعد المعنوي في الأزمة ممثلا في مدى تقبل المجتمع الدولي للتدخل الروسي، فهل التأييد الهامشي لروسيا دوليا سيبقى على حاله، كما تبين من الفارق الكبير بين المعارضين والموافقين على السلوك الروسي في تصويت الجمعية العامة للامم المتحدة (141 مقابل 5) أم سيتغير، علما ان قرار مجلس الامن أجهضه الفيتو الروسي بينما تصويت الجمعية ليس إلا « توصية» غير ملزمة، كما ان الحرب الاعلامية بين الطرفين والتي يتفوق فيها الطرف الغربي بشكل لا لبس فيه بغض النظر عن مضمون وصدق الحملات الاعلامية لكل من طرفي النزاع والتي يتضح فيها التفوق الغربي. بناء على ما سبق تبدو الصورة حتى هذه اللحظة على النحو التالي: 1- ان فترة المعركة العسكرية ستكون أطول مما يعتقد الروس، لكنها أقصر مما يتمنى الامريكيون 2- ان العقوبات الاقتصادية ستضر الاقتصاد الروسي بشكل أقسى مما يروج الروس وبشكل أقل قسوة مما يروج الامريكيون. 3- ان الرأي العام الروسي أكثر حماسا لخطوة قيادته بينما التكتل الغربي تبدو مجتمعاته أقل حماسا. 4- احتمالات التباين بين الأوروبيين أمر وارد في ظل التباين في مستوى تأثير الأزمة على كل دولة على حدة، كما ان احتمالات ظهور بعض الشقوق الضيقة بين أمريكا وبعض التوجهات الأوروبية أمر غير مستبعد. 5- ان الموقف الصيني مع روسيا يتطابق بنسبة لا تقل عن 70% ( تجاريا وإعلاميا وسياسيا)، لكنه دبلوماسيا يبدو أقل تناغما وهو ما يتضح في انماط التصويت الصيني في مجلس الامن وفي الجمعية العامة. 6- يبدو ان التكتلات التي صنعتها روسيا واحيانا الصين ( مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي، مجموعة البريكس، منظمة شنعهاي، الاتحاد الاوراسي.. إلخ) لم تكن فاعلة في الموقف من الازمة، ونعتقد ان روسيا ستحاول تحريك هذه المنظمات بطريقة أو أخرى للحصول على قدر من المساندة.