في مجال دواعي توظيف التراث في الرواية، فإن «عامر، مخلوف» - نقلا عن الباحث «وتار، محمد رياض» في كتابه «توظيف التراث في الرواية العربية «- يذكر مجموعة من البواعث. يرى «عامر مخلوف» أن هذه البواعث غير كافية لتحديد دواعي توظيف التراث في الرواية، فيضيف عليها ما يأتي: أ-المقاومة: حيث تصبح العودة إلى التراث وإحيائه والتمسك به ضرورية لمقاومة الاستعمار، ومواجهة سياسة الاجتثاث الرامية إلى طمس التراث وإتلاف معالم الهوية. ب- الاستقلالية والتميز: ففي سياق محاربة الأفكار المستوردة ومحاولات التخلص من التبعية للغرب، برزت دعوة الأدباء إلى استلهام التراث وتوظيفه قصد إضفاء نوع من الخصوصية على الرواية العربية. ج- المعارك الفكرية حول التراث: فقد تحول التراث إلى سلاح إيديولوجي بفعل احتداد الصراع بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي، الأمر الذي أدى إلى بروز دعوات ومؤلفات فكرية وفلسفية تتبنى رهان التراث، وطبيعي أن ينعكس ذلك كله في الكتابة الأدبية عامة والروائية خاصة. د- جمالية التراث وطبيعة الرواية: فمن جهة نلاحظ أن التراث العربي يتسم بالجمال والتنوع والقدرة على التأثير في الآداب العالمية مثلما أحدثته قصص «ألف ليلة وليلة « أو « رسالة الغفران «، ومن جهة ثانية نجد أن فن الرواية بطبيعته الموسوعية، له القدرة على احتضان أجناس أدبية متعددة، وبالتالي القدرة على توظيف التراث. ه- العامل السياسي: ويتمثل في ظهور أحزاب سياسية عربية وفي مقدمتها «حزب البعث»، جعلت من التراث العصب الحساس في إيديولوجيتها، فكان تمجيد هذه التشكيلات السياسية للتراث أثره الواضح في البحث الفلسفي والكتابة الأدبية. إن الملاحظ على هذا التقسيم الذي طرحه الباحث «عامر، مخلوف «هو كثرته في غير ما حاجة علمية لذلك، فعامل (الحركة الثقافية) الذي تحدث عنه «وتار، محمد رياض» هو نفسه عامل (المقاومة)، وهو نفسه عامل (الاستقلالية والتميز) اللذين كررهما « عامر، مخلوف» بمسميات مختلفة، كما نلاحظ أن عامل (البواعث الفنية) الذي تحدث عنه «وتار، محمد رياض « هو نفسه عامل (جمالية التراث وطبيعة الرواية) الذي تبناه» عامر، مخلوف». ثالثا: دواعي توظيف التراث في المسرح أما بالنسبة لتوظيف التراث في المسرح، فإننا نجد «إسماعيل، سيد علي» يحدد أربعة أسباب تجعل الكاتب المسرحي يهتم بالتراث، فيقوم بتوظيفه في إبداعه المسرحي وهذه الأسباب هي: @ أولا: الفخر بمآثر العرب وتاريخهم تعويضا عن ضعف الأمة في حاضرها بسبب طغيان الاستعمار عليها، فيكون استلهام المواقف القومية بهدف الفخر والاعتزاز وإثارة الحمية والأنفة في النفوس. @ ثانيا: الوقوف أمام المستعمر فيكون توظيف التراث بهدف التمسك بالشخصية الوطنية في مقابل سعي الاستعمار لطمسها. @ ثالثا: التمسك بالهوية القومية العربية وخاصة في فترات الهزات الكبرى التي تضعف كيان الأمة فيخيم عليها الإحساس بالإحباط والضياع فيكون التراث معوضا عن الشعور بالنقص ودافعا لعودة الثقة بالنفس. @ رابعا: محاولات التأصيل للمسرح العربي وذلك بالسعي إلى استلهام الأشكال والمضامين التراثية لمواجهة سلطة الثقافة الغربية. وإننا نلاحظ مما تقدم وجود اختلافات بسيطة بين الباحثين بخصوص مقارباتهم لقضية دواعي توظيف التراث، ولعل مرد تلك الاختلافات يعود في الأساس إلى تباين أشكال الأدب من شعر ورواية ومسرحية، كما يعود إلى اختلاف هؤلاء الباحثين في طرائق التعبير عن تلك البواعث بين كل باحث وآخر، وليس إلى طبيعة البواعث في حد ذاتها. لقد رأينا فيما تقدم أن حضور التراث في حياة الأمة عموما هو ما يؤكد الوجود الفعلي، الحضاري والرمزي لتلك الأمة ذلك أن «التراث هو التاريخ والذاكرة والشخصية التي تلون أجيال الأمة الواحدة بألوانها، فهو ليس تراكم خبرات ومعارف، ولكنه اعتراف بوجود واعتراف بشخصية لها وجودها التاريخي والنفسي، بكيانها وموقعها في العالم، فنحن كثيرا ما نسمع أو نقرأ: «إن أمة بلا تراث، أمة بلا جذور»، بل بلا مستقبل، لأن الجذور هي التي تغذي شجرة الحياة لتعطي ثمارها وتشع بنورها على الإنسانية جمعاء، الأمة التي لا تصون تراثها وتستفيد منه في جميع مجالات الحياة، أمة تابعة ولا يمكنها أن تسهم في بناء حاضر ومستقبل الإنسانية، بل لا يمكن أن تحافظ على كيانها كأمة». إن أهمية التراث مسألة بديهية، غير أن هذه الأهمية القصوى قد أفرزت – فيما يذكر (مهدي، نافع موسى) أربعة مواقف سجالية متباينة بين الباحثين تتمثل في: أولا: الموقف المقدس للتراث، وهو موقف نكوصي يعتقد أن ما في التراث هو كل الخير، وأن ما أنجزه الماضي هو الموجه والمسير للحاضر والمستقبل. @ ثانيا: الموقف الرافض للتراث، وهو موقف سلبي ينكر التراث جملة وتفصيلا ويعتقد بعدم جدواه في الحياة المعاصرة. @ ثالثا: الموقف الانتقائي أو الإيديولوجي، الذي يدعو للاستفادة من التراث بما يخدم خطه الإيديولوجي أو الفكري وحسب. @ رابعا: الموقف التوفيقي أو المتردد، والذي يقف حائرا أمام التراث فلا يعرف ما الذي يريده منه بالضبط. وبعد عرضه لهذه المواقف، يرى الباحث أن الموقف السليم من التراث هو الموقف الإيجابي الذي يحسن إدراك الجوانب المضيئة في التراث، كما يحسن توظيفها في إضاءة الحاضر والمستقبل. وانطلاقا من جملة المواقف العامة السابقة، فإن هناك من النقاد المسرحيين من حدد – من وجهة نظره- بعض المعايير الواجب توفرها في العمل المسرحي المتأثر بالتراث تتمثل فيما يأتي: @ أولا: عدم تبجيل التراث، وإلا أصبح الكاتب أسيرا لكل ما هو قديم. @ ثانيا: القدرة على الانتقاء من التراث ما يناسب المرحلة التاريخية الراهنة، وما يلائم مشكلات الحاضر. @ ثالثا: المرونة في التعامل مع التراث بحرية، ذلك أن المسرحي الجيد هو الذي يعي دور التراث وعيا نقديا يمكنه من تفجير ما فيه من دلالات إيحائية بواسطة إضافة جوانب وشخصيات لم يكن لها وجود حقيقي في التاريخ، فالمسرحي فنان يختلف دوره عن دور المؤرخ. @ رابعا: التوظيف الرمزي للتراث حيث يتم استعماله قناعا، أو معادلا موضوعيا للتعبير عن الواقع بأسلوب غير مباشر، ويكون ذلك خاصة عندما يواجه الكاتب ضغوطا اجتماعية أو سياسية خارجية. @ خامسا: الأصالة والمعاصرة بين التراث والواقع وتتمثل في قدرة المسرحي على جعل التراث يستجيب لمتغيرات العصر، ذلك أن قيمة التراث تكمن في مدى ما يعطي للمبدع من وجهات نظر لتفسير الواقع. إن هذه المعايير تفرض على المبدع الاطلاع الجيد على التراث « في كلياته وجزئياته كظاهرة أو ظواهر مادية وروحية متنوعة المناحي ومتعددة الجوانب مع الوعي التام بحقيقتها وأبعادها.»، ذلك أن الوعي الشامل والعميق بالتراث من شأنه أن يساعد المسرحي على امتلاك رؤية وتأسيس موقف نقدي من التراث يساعده على تحقيق العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر، ذلك أن « التراث ليس قيمة في ذاته»، ولكنه وسيلة وطاقة تعبيرية هامة بين يدي المبدع يستثمرها ويوظف إمكاناتها الظاهرة والكامنة في خدمة تجربته الراهنة ومنتجه الإبداعي. أننا إذا اعتبرنا التراث نقاطا مضيئة في مساحات معتمة، فإن المسرحي الجيد مطالب من ناحية باكتشاف تلك النقاط المضيئة، كما أنه مطالب بحسن استغلالها في خدمة تجربته الإبداعية الراهنة من جهة ثانية، «وهو بذلك يمنح التراث دفعة جديدة من الحياة، لأنه استخدمه ليعبر به تعبيرا جديدا عن رؤية جديدة». وإذا كان التراث ليس له قيمة في ذاته، ولكنه يكتسب قيمته من خلال ما يمنحه للمبدع من فضاءات ورؤى تغني تجربته وتثري منتجه الفني، فإننا نرى من الفائدة أن نشير إلى أن وعي المسرحي العربي عموما بأهمية توظيف التراث لم يكن طفرة واحدة، ولكنه مر بمراحل متباينة كان فيها حضور التراث بمستويات متعددة يمكن إبراز بعضها كما يأتي: - أولا: مستوى مسرحة التراث حيث جرى التعبير عن هذا التراث فاستغرق المسرحي فيه وسجله أو عرضه كما هو دون إضافة أو تفسير. - ثانيا: مستوى التعبير بالتراث، حيث وظف المسرحي التراث، واستخدمه استخداما فنيا بغرض التعبير عن هموم العصر وقضاياه، وذلك بعد تأويل العناصر التراثية تأويلا معاصرا. - ثالثا: مستوى التأصيل بالمراهنة على أشكال التعبير المسرحي في التراث، والتنظير لهذه الأشكال التراثية. * للموضوع إحالات (الجزء الثاني والأخير)*